قبل دقائق من انطلاقها في الثامن من يناير 1992، ضجت القاعة بالتكبير والحمد والثناء، وتعالت هتافات "الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، ما دفع الدكتور سمير سرحان، محاور المتناظرين على طاولة النقاش إلى دعوة الحضور، الذين تجاوز عددهم الـ30 ألفاً، إلى الهدوء والإنصات لبدء حديث الضيوف، لم يأبه الحاضرون لهذه الدعوة، وظلوا يرددون هتافاتهم قبل أن يتدخل المحاور مجدداً طالباً الدعم من أعلى قامة دينية في الطاولة، هو الشيخ محمد الغزالي، وطالبه بتكرار دعوته إلى الحضور بالهدوء لانطلاق المناظرة.
هكذا كان المشهد فى المناظرة الدموية، التى أعلنت الهيئة المصرية العامة للكتاب، بثها كاملة لأول مرة على قناتها الرسمية على موقع "يوتيوب" بجودة عالية، وهى التى راح ضحيتها شهيد الكلمة الراحل الكبير فرج فودة، مع مناظرته مع شيوخ ومنظرى الإرهاب والدم، لتكون الفتوى الأولى بعدها التخلص من هذا الرجل.
وكان موضوع المناظرة هو الدولة الدينية والدولة المدنية، وكان فرج فودة أبرز الداعين لضرورة فصل الدين عن الدولة، ورأى الغزالى أن الاستعمار ألغى آية القصاص من القرآن، وأنه أجهز على التراث السماوى وألا تحكمنا شرائع السماء، وأن تحكمنا أهواء الناس، هكذا استهل الشيخ الغزالى المناظرة، وحينما جاء دور الحديث على المفكر الكبير فرج فودة، كرر سمير سرحان دعوته للحاضرين أن يلتزموا بالتحضر فى التعليق، والكف عن الهتاف، كانت الأجواء ساخنة، وازدادت سخونتها بعدما تحدث الدكتور محمد عمارة، وهاجم العلمانية، فاستهل فرج فودة المناظرة بقوله، "أبدأ بملاحظة أوجهها للحاضرين، إن التصفيق والهتاف، سواء للتأييد أو الاعتراض، يدل على عدم ثقة الجمهور بمن يمثله على المنصة، وأعتقد أن هذا غير وارد".
ولم يكن بظن الدكتور سمير سرحان الذى دعا لتلك المناظرة أنها ستكون بداية النهاية للكاتب والمفكر فرج فودة، وأنها ستكون سببا فى اغتياله على أيدى مجموعة ممن أطلقوا على أنفسهم "الجماعة الإسلامية"، ونتيجة لفتوى منظر عمر عبدالرحمن مفتى تلك الجماعة.
الفتوى الأخيرة والتى كانت بمثابة الحاسمة أصدرها أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر محمود مزروعة، أحد الشاهدين الرئيسيين في قضية مقتل فودة، ونفذها مسلحان ينتميان إلى الجماعة الإسلامية.
وفي شهادته أمام المحكمة، قال مزروعة "إن اتصالا جاءه من شباب يدعون انتماءهم لإحدى الجماعات الإسلامية، ويريدون استشارته في أمر عاجل، فحدد لهم موعدا، والتقاهم، فسألوه: "ما حكم المرتد" فأجاب: "قتله"، ثم سألوه: وإذا لم يقتله الحاكم؟، فأجاب قاطعا: يكون حكم قتله في رقاب عامة المسلمين".
وبحسب شهادته أيضاً، فإن "فرج فودة أعلن رفضه لتطبيق الشريعة الإسلامية، ووضع نفسه وجندها داعيا ومدافعا ضد الحكم بما أنزل الله، وكان يقول: لن أترك الشريعة تطبق مادام فى عرق ينبض، ومثل هذا مرتد بإجماع المسلمين، ولا يحتاج الأمر إلى هيئة تحكم بارتداده".
عملية الاغتيال حدثت بعد 6 أشهر كاملة، إذ كان الكاتب والمفكر "فرج فودة" يستعد للخروج من مكتبه برفقة ابنه بشارع أسماء فهمى بمصر الجديدة، كى يستقل سيارته عائدا لمنزله اعترضه كل من أشرف سعيد إبراهيم وعبد الشافى أحمد رمضان، حيث كانا يستقلان دراجة بخارية وأطلق عليه الرصاص الذى اخترق جسده بينما أصيب ابنه إصابات طفيفة.
خلال مناقشات طويلة عقدتها المحكمة للتحقيق في مقتل فودة، طالت الاستجوابات عدداً من المفكرين وعلماء الأزهر على رأسهم الشيخ محمد الغزالي.
وفي شهادته في المحكمة، قال الشيخ محمد الغزالي، "إنهم قتلوا شخصاً مباح الدم ومرتداً، وهو مستحق للقتل، ففرج فودة بما قاله وفعله كان في حكم المرتد، والمرتد مهدور الدم، وولي الأمر هو المسؤول عن تطبيق الحد، وأن التهمة التي ينبغي أن يحاسب عليها الشباب الواقفون في القفص ليست هي القتل، وإنما هي الافتئات على السلطة في تطبيق الحد".
المناظرة حضرها العديد من رجال الفكر والثقافة والفن فى مصر، ولما لا فقد كان "فرج فودة"حديث الساعة فى ذلك الوقت، فى أحد الصفوف الخلفية، كان هناك شخص يراقب المناظرة ويترقب ردود أفعال المواجهين لفرج فودة، قلقا حول ذلك المصير الذى ينتظر رجلا كان ضحية اللجوء للعقل، هذا الشخص كان الفنان الكبير محمود مرسى.
الكاتب والمفكر الدكتور خالد منتصر، تحدث عن تلك الواقعة، خلال ندوة لمناقشة كتاب "محاكم التفتيش" للكاتبة دينا أنور، مشيرا إلى أن الفنان الكبير محمود مرسى توقع مقتل المفكر الكبير فرج فودة، بعد مناظرته مع الدكتور محمد عمارة بمعرض الكتاب قائلا "الراجل ده هيغتالوه"، مضيفا أن بائعى الكتب قالوا بعد اغتياله: "يلا نطبع كتاباته دلوقتى دى هتبيع كويس".