فى عالم الجريمة كل شىء مباح، فجرائم "القتل، السرقة، والنصب"، و غيرها التى اعتدنا على سماعها بشكل دورى، يصاحبها أشياء أخرى لا يكشف عنها إلا نادراً، وهذا ما يجعل بعضها من أغرب القصص والأحاديث، التى قد لا يصدقها عقل ولا تستوعبها النفس.
"اليوم السابع" يقدم فى سلسلة " أغرب القضايا" قصص ليست دربا من الخيال ولا فكراً مجردا لمبدع، ولا صورة خيالية لفنان عن الواقع، وإنما هى قصص إنسانية صادقة وعميقة من داخل المحاكم خلال سنوات طويلة من الزمن.
"
الحلقة الحادية عشر".. "الأخ الخائن".. الجزء الأول..
يروى هذه الحلقة المستشار بهاء الدين أبو شقة فى كتابه "أغرب القضايا..
من مناً يملك أن يهرب من قدره، أن يغير مجرى حياته، أن يحقق كل ما يريد، فالمثل الشعبى الشائع أصاب كبد الحقيقية.."المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين".
سيناريو الأحداث لهذه القضية يؤكد أن الأنسان ليس حراً فى اختيار طريق حياته بل ليس حراً فى تحديد خطواته، فمن كتبت عليه خطى خطاها ومن كانت منيته بأرض فلن يموت فى أرض سواها.
كان شيخاً نحيل الجسد، كسى الشيب رأسه وأظهرت بصمات الزمن علامتها على وجهه الذى امتلاء بالتجاعيد وغطته الهموم، كان يسير حانياً وكأنما حملته الدنيا كل أعبائها على كتفيه رغم أن عمره لم يناهز الخمسين عامً..كان واضحاً من نبرات صوته أنه يعانى الكثير، وأنه يختزن بداخله من الألام ما ينوء جسده الهزيل عن حمله، كان أشيبه بجثة متحركة.
ويقول المستشار بهاء أبو شقة، جاء يوكلنى للدفاع فى قضية قتل.. فسألته عن صلته بالقاتل أو بالقتيل,, وكانت المفاجاة وهو يجيب بصوت مرتجف.. "القتيلة بنتى .. ثم أطلق تنهيدة ملؤها الحسرة والالم الذى بدأ يطرح نفسه من داخله.
فسألته عن المتهم وصلته ودافعه على القتل، فأجاب "ابن أخويا"، فعجبت مستغرباً هذا المشهد الذى يقدم فيه الأب على توكيل محام للدفاع عن قاتل ابنته.
دارت فى ذهنى الكثير من الأسئلة الحائرة التى لم أجد لها جواباً..وأنا أحاور الرجل على استشف منه ولو نذراً يسيراً من حديث يفسر هذا الأمر الذى يجافى طبائع الأمور..وإزاء صمته وإصراره قدم لى دوسيه القضية وقال بصوت مرتجف الحقيقة كلها فى أوراق القضية، وقال لى أن المتهم فى مقام ابنه..إذ إنه ابن أخيه.
بدأت أتصفح أوراق القضية .. كانت القتيلة هى زوجة شقيق المتهم.
كانت بداية الأحداث حسبما سطر فى أوراق الدعوى عندما أصر والد القتيلة على زواجها من ابن عمها رضوخاُ للتقاليد والعرف الجارى الذى يأخذ جكم القانون فى بلدتهم، ولا يستطيعون بل لا يملكون منه فرارًا.. وإلا فاللعنة والعار ستحل بالأسرة بأكملها على نحو يفقدها اعتباراها ويطأطىء رؤوس أبنائها إن لم ترضخ لهذه التقاليد.
كانت فتاة ريفية.. حلوة الطلعة.. فى العشرين من عمرها تعيش فى إحدى قى محافظة سوهاج التى ترى فى هذه التقاليد دستوراً مجرد التفكير فى الخروج على طقوسه جريمة لا تغتفر.. كانت أمنية كل شباب القرية الزواج منها.. إلا أن والدها كان له رأى أخر إرضاء وتنفيذاً لحكم هذه التقاليد.. صمم على زواجها من ابن عمها المقيم فى إمبابة.. رغم أن جسده كان مستودعاً للأمراض.. كان مريضاً بمرض صدرى خطير، السعال لا يفارقه ليلاً ونهاراً، وقد هد المرض جسده فأصبح هزيلاً منك القوى.. يلهث وتتلاحق أنفاسه لأقل مجهود..وفوق كل ذلك كان يكبر ابنة عمه بربع قرن.
لم يعباء الأب بكل هذه الفوارق، وساق ابنته ضارباً بإرادتها وأحاسيسها ومشاعرها والفارق الكبير بينهما عرض الحائط..كان قد فاته قطار الزواج ورفضت كل من تقدم إليها الزواج منه، ولكن عمه قرر أن يلحقه "بالسبنسة" بعد أن تحرك قطار العمر، وزوجه من ابنته الحسناء كممرضة قبل أن تكون زوجة تسهر الليالى على نغمات سعاله وموسيقى أنينه وهو يطرب أذنيها من الأمراض التى يعانى منها.
كان يقطن فى مقابل الشقة التى يقطن بها شقيقه الأصغر.. كان يمتلىء رجولة وفتوة.. فى الثلاثين من عمره.. يعيش حياته بالطول والعرض، وقد سبح فى ملذاته وأشبع شهواته بعد ان مسح "بأستيكة" تلك المبادىء والقيم والعادات التى تشبث بها أهل قريته.
أحس بمدى معاناة زوجة أخيه وهى الأنثى التى تطل من عينيها الحسرة المقرونة بالحيرة على شبابها وأنوثتها اللذين قبرا مع هذا الزوج العليل وهى لا تملك من أمرها شيئاً.. فما عاد أمامها سوى أن تواصل المسيرة فى هذا الطريق المظلم مستسلمة بلا حيلة لا تعرف أين ومتى ستكون النهاية.
إلا أن أخاه فى غمرة حياته الماجنة المستهترة أحس بما تعانيه من أنوثة وفتنة طاغية وفراغ عاطفى.. أعطى لنفسه الحق فى أن يكون رجلها القادر على حل كافة مشاكلها وتبديل حياة المعاناة والحرمان العاطفى إلى حياة ملؤها الحب والعشق والهيام، ولكن على طريقته والتى تطرد كل قيمة أو مبدأ أو شرف.
غذى أذنيها بكل هبارات الغزل ووعدها بأنه سيكرس كل حياته لإسعادها، أحست الفتاة الريفية بما يدور فى ذهنه وما يعتمل فى فكره فصدته منذ البداية ونهرته فى أكثر من موقف، فقد كانت تقاليد ومبادىء أهل الصعيد تحتل فكرها وجسدها على نحو يستعصى معه أى محاولة لاقتحام هذه المبادىء.. ولكن فى كل مرة كانت ترفض مجرد سماع حديثه.. وتنهره بشدة.. كانت النار تزداد اشتعالاً فى قلبه .. ورغبة فى تملكها واستحواذه لها تتزايد يوماً بعد يوم.
أحست زوجته وأم أولاده بما يعمل زوجها فى نفسه ويدور فى فكره.. أدركت رغبته المحرمة، فقد كانت تعرف الكثير من نزواته وطيشه، فنهرته أكثر من مرة وأنبته على هذه التصرفات المحرمة شرعاً.. فهى مازالت زوجة أخيه .. وعليه احترام الصلة خاصةً مع ظروفه المرضية التى تقتضى أن يقف إلى جواره فى محنته المرضية، لا أن ينهش فى عرضه ما برفضه منطق وحوش الغابة، وحذرته بأن تصرفاته الطائشة لم تصل بعد إلى علم أخيه، وأنها تخشى لو علم بذلك فى أن تقضى الصدمة على حياته وهومريض، لكنه لم يرتدع وأصم أذنيه وأغلق باب فكره وحبس ضميره وصمم على أن يستمر فى تنفيذ ما هداه إليه شيطانه..
فكر ودبر كيف يوقع بفريسته فى شباكه بأية طريقة، سيصل إليها مهما كان الثمن وأياً كانت العوائق التى تقف حائلاً بينهما سيدمرها وينسفها باسلوبه الخاص.
لم تمض على تلك الزيجة- مع إيقاف التنفيذ- سوى سنة أشهر ، حتى كان صباح ذات يوم عندما اختفت الزوجة، وبحثوا عنها فى كل مكان فلم يجدوا لها أثراً.
وفى ذات اليوم الذى اختفت فيه تم العثور على جثة محترقة لفتاة فى "مقلب قمامة" قريب من المسكن.
انتقلت الشرطة والنيابة لمكان الحادث لمناظرة الجثة ومكان العثور عليها، ولم تكن هناك وسيلة للتعرف على صاحبة الجثة سوى بعض بقايا ملابسها التى تعرف عليها الزوج، وقال إنها ذات الملابس التى كانت ترتديها زوجته ليلة اختفائها وأيدته فى هذا زوجة أخيه الأصغر.
كانت الجثة مشوهة تمامًا، فقد أتت النيرات على معظم الجزء العلوى من جسدها وأصبح من المستحيل التعرف على ملامحها، وبالتالى الوقوف على شخصية المجنى عليها.
نشطت تحريات المباحث بحثاً عن صاحبة الجثة وعن القاتل والدافع للقتل..
قطع حيرة التفكير فى الإجابة عن الأسئلة السابقة بمفاجأة لم ترد بخاطر.. فقد تقدمت زوجة الاخ الأصغر من تلقاء نفسها إلى النيابة طالبة الإدلاء بمعلومات تكشف بها عن الحقيقة وتزيل الغموض الذى أحاط بشخصية المجنى عليها وشخصية القاتل ودافعه على ارتكاب الجريمة..
قالت بنبرة ملؤها الثقة الممزوجة بالحسرة والندامة: القتيلة هى " زوجة شقيق زوجى".. والقاتل هو " زوجى".. وانهمرت دموعها على خديها وأجهشت فى بكاء عميق وهى تشخص ببصرها وكأنما تستعرض شريط حياتها المفعمة بالأسى والألم..
إنه للأسف زوجى وأبو أولادى لا يبحث إلا عن ملذاته وما يشبع غرائزه ولا يهنيه بعد ذلك أى شىء حتى ولو كان الثمن أسرته، وأولاده، أو أقرب الناس إليه، كان لا يستطيع أن يكبح جماح نفسه أمام غرائزه الفياضة والتى تجنح دائماً نحو الحرام.
فقد خرج فى تلك الليلة وهو يحمل سكيناً حادة أخفاها بين طيات ملابسه وعاد إلى المسكن قرب الفجر وملابسه ملوثة بالدماء، وكان يحمل السكين ذاتها حيث قام بغسلها، وتخلص من السكين فوراً، وقدمت للنيابة جلبابه المستخدم فى لحادث وعليه بقايا بقع داكنة زالت ملامحها بعد غسلها.
وأكملت: كانت أفعاله دنيئة وتصرفاته ساقطة وأنها نصحته مراراً أن يتقى الله من أجل العشرة والاولاد التى تجمع بينهما، وأن ما يفكر فيه من إقامة علاقة آثمة مع زوجة أخيه ضرب من الجنون، مضيفة انها واجهته بالحقيقة بأنه هو اللى قتلها فلم ينكرها، بل هددها بالقتل هى وأطفالها إن تفوهت بكلمة أو تلفظت بلفظ.
تم القبض على المتهم وتقديمه للمحاكمة الجنائية..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة