صفحات من سيرة الفقه والدم.. 1000 سنة من سرقة الدين وإشعال فقهاء الحنابلة لمحرقة التكفير والعنف.. 25 كتابا تفتح أبواب الجحيم من ابن تيمية للمودودى.. والأسلحة: تأميم الفقه ومعاداة العقل والتكفير

الأربعاء، 06 مايو 2020 04:18 م
صفحات من سيرة الفقه والدم.. 1000 سنة من سرقة الدين وإشعال فقهاء الحنابلة لمحرقة التكفير والعنف.. 25 كتابا تفتح أبواب الجحيم من ابن تيمية للمودودى.. والأسلحة: تأميم الفقه ومعاداة العقل والتكفير ابن تيمية
حازم حسين

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

-

ابن حنبل وابن تيمية وابن القيّم وابن رجب وابن عبدالوهاب والمودودى يؤممون الفقه لصالح العقيدة

        رسالتا أحمد بن حنبل تُقدمان الرواية على الرأى وتشقان طريقا عنيفا لمحاربة العقل والفلسفة والتصوف

-        10

كتب بتوقيع ابن تيمية تصادر الإسلام لصالح التصور الحنبلى وتضع الجميع فى دائرة الكفر

-        "

إعلام الموقعين" يحتكر الله ويصادر الفقه.. وابن القيم يستكمل موقفه بـ"أهل الذمة" و"اجتماع الجيوش"

-       

ابن رجب يؤسس لـ"فقه السيف" ويضع الحرب والدم إلى جوار القرآن والسنة فى الدعوة للإسلام

-        4

كتب وهابية تشوه معنى التوحيد وتُكفر أغلب المسلمين وتحوّل الفقه الدينى إلى حركة سياسية

-       

المودودى يعلن الحرب على العالم تحت لافتة "الحاكمية".. و5 كتب هندية تقود فكر الإرهابيين العرب

 

يضغط الأُصولىُّ المُسلَّح زناد بندقيَّته، أو يكبس زرّ المُفجِّر؛ ليقتل عشرات المُسالمين بسيارة ملغومة أو حزام ناسف، وبينما ينطلق البارود وتتطاير الشظايا الآن، فإنها تحمل معها نارًا أشعلها آخرون طوال قرون. إذ لا يُمكن النظر إلى الجماعات الحركيّة وتيارات العنف الناشئة خلال القرن الماضى ومُفتتح الجارى، بدءًا من الإخوان 1928 حتى القاعدة بالثمانينيات ثم داعش وغيره من حركات العقد الأول من الألفية، بمعزل عن تُراث ضخم من الفقه وتأصيل التطرُّف، وابتكار وتغذية مفاهيم مغلوطة عن الجهاد والقتل، وعن العقيدة ومنظومة الحكم ومركزية النصوص والنيابة عن الله فى الأرض!

 

فى حقيقة الأمر، تبدو السياقات مُتصلة بدرجة أعمق ممّا قد يتصوّر المُسلَّح والمُعمَّم. فبينما يؤمن رجل الدين بنزاهة خطابه المًسالم، فإنه يتشارك المرجعيات المؤسِّسة للعنف مع المقاتل، الذى يرى فقهاء العصر مُقصّرين أو مُتواطئين، لكنه يستند إلى مُدوّناتهم ويتنفّس معهم الهواء نفسه. هكذا لا يُمكن فَصل الإرهابى الذى يقتل الأبرياء فى سوريا أو العراق أو ليبيا أو اليمن أو سيناء وغيرها، عن الشيخ الذى يتمثّل خطابات التطرُّف، أو ينافح عنها، بدعوى أنها بريئة من القراءة المغلوطة والموجَّهة، بينما يُمثّل مجموع تلك البراءات تُراثًا ضخمًا تتأسَّس عليه رؤية "القتل المقدس"، التى يقف المقاتلون تحت رايتها، حاملين أسلحة الإرهاب ومُتفجّراته، ومُردِّدين فى الوقت نفسه أسماء ابن حنبل وابن تيمية وابن القيِّم والمودودى وابن عبد الوهاب!

 

 

 

 

ابن حنبل وصدام الفقه بالواقع

 

واجه الطبرى محنة عميقة مع الحنابلة، بعدما وضع كتابه "اختلاف الفقهاء" متجاوزا فيه أحمد بن حنبل، وتبريره الأمر بأنه مُحدِّث يختص بالرواية لا الفقه. عمليا أنفق "ابن حنبل" سنوات تكونه الأولى فى جمع الروايات، ولم يُصنّف صاحب مذهب فقهى إلا بعد أكثر من قرن على وفاته. وفضلا عن ذلك فقد أسس بوعى أو من دون قصد لمسار طويل، بُنيت عليه عمارة التطرف لاحقا.

 

كان ابن حنبل يقدم الرواية، ورفض القياس فى بادئ الأمر ثم اعتبره فى الأواخر ضرورة بعيدة. لكن تمثلت المشكلة الحقيقية فى موقفه الأصولى المتشدد من العقل، إذ تورط فى تكفير المعتزلة والجهمية والقدرية والمرجئة وغيرهم، وقضى فى رسالته المعنونة بـ"الرد على الزنادقة والجهمية" بابتداع وفسق وكُفر من يقول بخلق القرآن، أو يرفض تجسيم الله وحصره فى مكان، وامتد الخطاب إلى تكفير من لا يرفض القول بخلق القرآن وكُفر القائل به. وفى رسالة "السنّة" يستبق إلى تنزيه ما يُورده فيها بالقول: "فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب على قائلها، فهو مُبتدع خارج عن الجماعة"، ثم يتّهم صراحة القائلين بمسؤولية الإنسان عن أفعاله السيئة بالشرك والكفر. كما زعم أن من لا يقبل التقليد فاسق، وبعدما يستعرض رأيه بشأن الجنة والنار وحور العين والنفخة يُعقّب: "من قال خلاف هذا فهو مُبتدع وقد ضلّ عن سواء السبيل".

 

يرى ابن حنبل أن مُرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان، وأن البدعة إحداث ما ليس فى الدين حتى بالقول أو مخالفة الصحابة، وهى فى عُرفه أخطر من الكفر؛ إذ لا توبة لصاحبها، والرد عليه أعظم من جهاد الكفّار، كما يدعم مفهوم "الفرقة الناجية" وأنهم أهل الحديث بينما بقية الفرق فى النار. ويُعرِّف الدين بأنه "كتاب الله، وآثار وسنن وروايات صحاح عن الثقات، حتى ينتهى ذلك إلى رسول الله وأصحابه والتابعين وتابعى التابعين... لا يعرفون بدعة، ولا يُطعن فيهم بكذب، ولا يُرمون بخلاف، وليسوا بأصحاب قياس ولا رأى؛ لأن القياس فى الدين باطل، والرأى أبطل منه، وأصحاب الرأى والقياس مُبتدعة ضُلّال"، مُصادرًا منظومة الفقه بكاملها لصالح تصوّره الأصولى حصرًا، فضلا عن مصادرة تنوع الروايات واختلاف الأوائل بشأنها، كما أنه يضع العقل موضع الشك والتفسيق. وبعيدا عن الجدل بين تشدّده ومواءمته لعصره، فإن بذرة التطرف التى وضعها تمثّلت فى التأسيس لصدام الفقه بالواقع، وتقييد الحياة بتصورات الأولين عن النص، ما فتح بابًا واسعًا للتكفير والاتهام بالابتداع، بدأ ظهوره تدريجيًّا من الجيل الأول لتلامذته، وامتدّ إلى جماعات الإرهاب المسلح حاليا.

 

 

 

 

تأصيل ابن تيمية للعنف

 

رغم فارق يتجاوز 4 قرون، إلا أن ابن تيمية قد أحدث التحوُّل الأكثر حدّة فى مسار الفقه الحنبلى. إذ تبنى المنطلق الأصولى لدى أستاذه، بتضييق الفقه لصالح توسعة العقيدة، وتقديم الرواية على القياس والعقل. لكنه طوّر تلك الأفكار وانتقل بها إلى الأمام، بما يُلائم سياق القرن السابع الهجرى بما شهده من بدء تحلل الدولة الإسلامية القوية، وهيمنة التتار وتداعى المماليك. وبدرجة ما فإنه تورّط فى التزمُّت بالتدريج، إذ اعتبر العقيدة وجهًا من المقاومة الوطنية السياسية، فكان الانغلاق مسلكًا نفسيًّا لديه لصيانة الهوية.

 

وضع ابن تيمية تصورًا أكثر انغلاقا للعقيدة، عبر تقسيم التوحيد وترسيم حدود بين الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، بصورة فتحت الباب لإدخال مزيد من المخالفين فى دائرة الشرك، ثمّ ركّز على مفهوم الفرقة الناجية، أو "العقيدة الواسطية" بحسب عنوان كتابه، ومنه يُضيّق حيّز الاختلاف المتاح عبر أحكام الديار وتكفير المخالفين. وكمثال إحصائى فإن التكفير يتكرر أكثر من 400 مرة فى فتاوى ابن تيمية، بكتابيه الحاضرين بقوة لدى الأصوليين والمتطرفين: مجموع الفتاوى، والفتاوى الكبرى، ويقول عن الجهاد: "كل من بلغته دعوة رسول الله فلم يستجب يجب قتاله"، كما يُحبّذ إباحة المدن المفتوحة عنوة وقتل أهلها استشهادًا بواقعة خزاعة فى فتح مكة، وأفتى بجواز قتال المدن بمسلميها المستضعفين فى فتوى "ماردين"، كما أرسى مفهوم "التترس" الذى يجيز قتل العوام المسلمين الذين يتخذهم العدو دروعًا، وهو ما يستند إليه الإرهابيون حاليًا تحت عنوان "يُبعثون على نيَّاتهم".

 

أدخل ابن تيمية أمور الخلاف الفقهى فى باب العقيدة، فتوسَّع فى التكفير والقضاء بالشرك، وطالت نيرانه الرازى والأصفهانى والسهروردى وابن عربى والمتصوّفة والأشاعرة والماتريدية والفلاسفة والشيعة والعلويين والمُشتغلين بالمنطق، فى كتبه: درء تعارض العقل والنقل، وتلبيس الجهمية، واقتضاء الصراط، والرد على أهل كسروان، والرد على المنطق، وإبطال قول الفلاسفة، وبُغية المرتاد، وغيرها. وقد استُتيب عدة مرات وكان يتراجع عن آرائه ليخرج من السجن، ثمّ يعود إليها، حتى حُبس مُجدّدًا بفتوى من القضاة الأربعة، وبينهم حنبلى، رأوا أنه "ضال يجب التحذير منه" كما قال تلميذه ابن شاكر الكتبى فى كتابه "عيون التواريخ"، وأصدر محمد بن قلاوون منشورًا يُقرأ على منابر مصر والشام للتحذير منه ومن أتباعه، وقال عنه تقى الدين السبكى إنه "أحدث فى أصول العقائد ونقض دعائم الإسلام وشذ عن جماعة المسلمين"، ووصفه ابن حجر الهيتمى بأنه اتخذ إلهه هواه وأضله الله، وقال عنه هو وأتباعه: "تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود وتعدّوا الرسوم وخرقوا سياج الشريعة والحقيقة"، وخاطبه الإمام الذهبى قائلا: "من اتَّبعك مُعرّض للزندقة والانحلال"!

 

 

 

 

توقيع ابن القيِّم عن الله

 

امتدت أفكار ابن تيمية بتجليات أخرى لدى تلميذه ابن قيِّم الجوزية، الذى سيطرت عليه رؤية مُصادرة للدين من مالكيه، لصالح تصوّر أصولى يملكه الحنابلة وحدهم. ربما لم تكن منطلقات الوصاية وتأميم العقيدة واضحة لديه كما انعكست فى أفكار ابن حنبل وابن تيمية، لكنه بدرجة من الدرجات كان أكثر جرأة فى تحقيقها عمليا، بالتمادى بها إلى حيّز تأميم الله نفسه، وهى الفكرة التى بلورها فى كتابه "إعلام الموقِّعين عن رب العالمين"، إذ اختار طبقة من مُنتجى الفقه ليمنحهم مشروعية النيابة عن الله فى القبض على زمام العقيدة، ومن هذا التمثيل باتت مركزية تلك الخطابات أعلى وأقل قابلية للنقد والتفنيد، باعتبار المساس بها يتجاوز الموقِّعين إلى المساس بالله.

 

بعدما أسَّس ابن القيم لتلك الحلقة القاسية من الوصاية، التى تستمد مشروعيتها من استدعاء الله بذاته فى المواجهة، عبر ظلاله أو مُمثّليه من الفقهاء، تطوَّر إلى توظيف سلطته الناشئة فى الحفر وتجذير خطاب المركزية الحنبلى، عبر نفى واستبعاد وتكفير حزمة الأفكار المناوئة لدى من يُعملون العقل، أو يُرتِّبون مرجعيات الفقه على صورة مغايرة، فمثلا فى رسالته بعنوان "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطّلة والجهمية" يُصنّف تلك التيارات على 3 صور، يفترض فى القسمين الأولين الجهل أو التفريط، ثم يحكم على الثالث قطعًا بأنه فاسق وتكفيره محلّ تفصيل. كما مرَّر واحدة من مسوّغات العنف فى رسائله ومحاورات تلاميذه، ومنها اشتراط "التمحيص" لعبور بوابة الجنة، وأسَّس مفهومه على أربعة أركان: التوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المُكفِّرة، ومنها تطوّرت مسارات تخطئة المجتمع والاستعلاء عليه ثم الانعزال عنه، وبينما يُمكن استجلاب الحسنات، فإن المصائب ابتلاء مُقدَّر خارج ولاية البشر، لكن مسار تطوّر الفكرة مهّد لاستجلاب المصائب، فكان الخروج على المجتمع وبلورة رؤية جهادية أضيق من صيغة الأمّة والإمام، وهو ما جاءت فى ضوئه أفكار العنف والاستشهاد باعتبارها تأكيدًا لرباعية التمحيص، وخروجًا إلى دائرة المصيبة الشخصية المُكفِّرة للذنب.

 

إلى ذلك، طوّر ابن القيم فكرة استعداء الآخر الدينى أو مُعاداته، ففى كتابه "أحكام أهل الذمة" يمنع عليهم ضرب الناقوس أو إقامة الصلبان أو تعلية البناء، ويجبرهم على تمييز أنفسهم بملابس خاصة، وعدم ارتداء العمائم البيضاء أو ركوب الخيل، كما حرّم الوقف على كنائسهم والتهنئة بأعيادهم، وأجاز الاستيلاء على أموالهم، وسار مع أستاذه ابن تيمية فى وجوب إهانة عقائدهم ومُقدَّساتهم، تأكيدًا للبراءة والاستعلاء، ونفيًا للقبول والموالاة. كانت تلك الأفكار تجسيدًا لمنطلق فكرى احتكر الحقيقة، فعادى التوجهات الإسلامية المخالفة، ثم توسَّع ليصبّ عداوته على أهل العقائد المختلفة، وفضلاً عن تأسيسه لمفهوم الكفر المُوجِب للضرر، الذى قاد مُستقبلا لنشوء حركات تقاتل من تراه مُقصّرًا من المسلمين، فإنه تجاوز القرآن نفسه فى حقوق أهل الكتاب، وبرّر قهرهم والتعسُّف معهم، وهو أمر بُنيت عليه ممارسات طويلة لاحقًا، تمتدّ إلى قتل الأقباط وإحراق الكنائس وتفجيرها تحت راية الدين والتوقيع عن ربّ العالمين!

 

 

 

 

سيف ابن رجب الحنبلى

 

فى الوقت الذى تأثرت فيه رؤى ابن تيمية وابن القيم بسياق الضعف والارتباك الناتج عن غزو التتار للمنطقة، شهدت المرحلة التالية لهما بروز خطابات حنبلية أكثر تحلُّلاً من تلك الضغوط النفسية، وممّا يُمكن اعتباره فقهًا للهزيمة، كان ابن رجب الحنبلى واحدًا من تجلياتها، باستعادة مرويات القوة والمَنعة التى تتجاوز ضرورة ردّ العدوان إلى رفاهية المبادرة به.

 

أنتج عبد الرحمن بن أحمد الدمشقى الحنبلى، الذى عاش بين الثلث الثانى من القرن الثامن الهجرى إلى آخره، كتبًا ورسائل تنضبط وفق المفهوم الحنبلى، المنحاز إلى الرواية على حساب العقل، وتردّ كل الأمور الخلافية إلى أرضية العقيدة والخطاب الشرعى، لكنها كانت أكثر تمثيلاً لفقه القوّة، ومنها كتابه "الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبى بُعثت بالسيف بين يدى الساعة"، الذى يدور على روايتى أبى هريرة وعبد الله بن عمر لقول الرسول: "بُعثت بالسيف بين يدى الساعة؛ حتى يُعبَد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقى تحت ظلّ رمحى، وجُعل الذلّة والصَّغَار على من خالف أمرى، ومن تشبّه بقوم فهو منهم".

 

راج الكتاب بصورة طارئة بين نواة الجهاديين والتكفيريين بدءًا من منتصف ستينيات القرن الماضى، ليُمثّل مدخلاً أوليًّا نحو إنتاج مُقاربات أصولية لفقه الجهاد فى السياق الراهن، تأخذ موقفا جذريًّا حادًّا من الأُسس التنظيمية للدولة الحديثة، وآليات المأسسة والتنظيم وإدارة الحُكم المُستحدثة، باعتبارها تشبُّهًا بأُمم الكُفر، كما أنها تُرتِّب التدرُّج الحركى بين الدعوة لخطاب التوحيد وفق هذا الفهم الأصولى على أرضية المرويات ومأثور السلف، واعتماد السيف وسيلة للتعامل مع مَن يجحد تلك الدعوة، استنادًا إلى أن الإسلام لم يبلغ مبلغه المكتوب له بحيازة الأرض جميعًا، وأنه لا بديل عن السيف لفتح تلك البلدان وإقامة راية الدين فيها. والكتاب وفق فهمه الأصولى يجعل القتال ركيزة أساسية ضمن أعمدة الفقه وإدارة الدعوة وخطابها الشرعى، أمَّا فى توظيفه الحركى الناشئ مع بدء تبلور تيارات الجهاد فقد أسَّس لمنطلق تكفيرى، عماده التشبُّه بالآخر الدينى، ووجوب إقامة الحُجّة على الناس بالنصّ والسيف، وهو الفهم الذى ساوى من هذا المنظور بين الكافر الأصلى والمُرتدِّين وفق الفهم الأصولى، وبين العدو البعيد والقريب وفق الأولويات الشرعية، وبين قتال النكاية وقتال التمكين حسب فقه الجهاد وتنظيرات خطاب العنف!

 

 

 

 

توحيد الوهابية واحتكار الإيمان

 

نحو عشرة قرون قضاها الفقه الحنبلى على هامش المنظومة الرسمية لإدارة عقيدة المجتمع، لكنه أخذ يشقّ طريقه إلى الهيمنة، وإعادة صياغة المنظومة بكاملها، مع بروز اسم محمد بن عبد الوهاب، الذى استعاد خطابات ابن حنبل وابن تيمية وابن القيِّم لبلورة مُعادل حركى وتنظيمى لتلك الرؤى الأصولية، فاتحًا قوس الاستهداف ليطال الجميع من العوام ومُعتنقى بقية المذاهب، وهو ما أسَّس لمُنطلقات عقائدية وفقهية، مثَّلت لاحقًا واحدة من الركائز التى بنت عليها الجماعات الحركية معمارها بشأن جاهلية المجتمع ومُفارقته والخروج عليه وتسويغ قتاله.

 

فى كتاب "التوحيد" يصكّ ابن عبد الوهاب مفهومًا شديد الانغلاق للإيمان، ويُعيد تعريف الشهادة على وجه يُمثِّل أرضيَّة للفرز وتمرير الخطاب السياسى، إذ توسَّع فى إدخال عشرات المسائل الفقهية الخلافية ضمن حيِّز العقيدة، وتوسَّع فى تطبيق مفاهيم الحنابلة السابقين عن الشِّرك والكُفر، مُستندًا إلى إعادة قراءة موجَّهة لنصوص القرآن والسنة، ثم وضع عشرة نواقض للعقيدة، كما قطع بأن الشهادتين وحدهما لا تعصمان الدم والمال، وانطلق من تعريفه الجديد إلى أن الإيمان يقتضى ثلاثة مفاهيم: الغُربة، والهجرة، والجهاد، مؤسِّسًا بذلك لمسلك انفصال الفرد عن المجتمع والأُسرة، ثم الخروج إلى فسطاط الحق من وجهة نظره، وترجمة ذلك عمليًّا بالتكفير، ثمّ القتال على أرضية تلك الأحكام.

 

نشط "ابن عبد الوهاب" وأتباعه حركيًّا، عبر هدم مقامات الصحابة وأمهات المؤمنين، وقتال المخالفين، وتنفيذ مذابح بحقّ الحجيج من البلدان التى يرونها كافرة، منهم حجاج الشام واليمن وإيران ومصر، كما اتّبع سلفه الحنابلة فى تفسيق وتكفير المعتزلة والأشاعرة والماتريدية والمُتصوِّفة والشيعة. وفى كتاب "كشف الشبهات" توسَّع فى إدخال كل أمور الفقه الخلافية تحت لافتة الشرك والكفر، وفى "مسائل أهل الجاهلية" قدَّم تصوُّرًا مُغلقًا يُعيد المجتمع بكامله إلى السياق الجاهلى، بما يتأسَّس على ذلك من وجوب الاغتراب عنه، ثم الهجرة منه، وأخيرًا الجهاد ضده، وفى "الدُّرر السنيّة" فتح قوس التكفير ليشمل أهل نجد والشام واليمن، ومذاهب التصوُّف والكلام، مُترجمًا البُعد السياسى فى دعوته واتّصالها بالمملكة الحجازية فى الدرعية. وإجمالاً، من الكتب الأربعة وغيرها، فقد حوّل مؤسس الوهابية تراث الحنابلة من مذهب فقهى إلى حركة عقيدية، فاتحًا الباب لمسار لاحق من الأصولية السياسية وما نشأ عنها من حركات، اعتمدت آلية احتكار الإيمان لوضع المُخالفين فى حيِّز الكُفر، ثمّ إجراء أحكام الكفار عليهم، بما يُجيز لهم قتال المسلمين تحت راية دينية!

 

 

 

 

 

المودودى ومزج الخوارج بالحنابلة

 

مثلما انطلق ابن تيمية فى رؤيته المغلقة شديدة التطرف، من الظرف السياسى الذى عاين فيه تراجع الدولة الإسلامية وتوسع التتار على حسابها، كانت أفكار الفقيه الهندى أبو الأعلى المودودى نتاجا لوضعية الأقلية التى عاشها تحت هيمنة الهندوس وموقفهم الحاد من المسلمين، ثم صراعات السلطة بين التيارات الإسلامية فى باكستان لاحقا، وتحت ضغط تلك الرؤية تبلورت مفاهيم المودودى وصاغ نظرياته التى انتقلت للأصوليين العرب سريعا.

 

استجلب "المودودى" مفهوم الحاكمية، الذى كانت أولى تجلّياته مع الخوارج الرافضين لواقعة التحكيم، لكنه أعاد النظر إليه من زاوية حنبلية، فى ضوء رؤية الإمام المؤسِّس ثمّ ابن تيمية للعقيدة والفقه. ويعتبر فى كتاب "تدوين الدستور الإسلامى" أن هذا المفهوم يعنى أن "السلطة العليا والمطلقة" لله، وأن لديه الصلاحيات لإنفاذ حكمه وعلى الأفراد طاعته طوعًا أو كرهًا. هكذا تخيَّل أن الإسلام ابتكر نظام حُكم، ثم قرّر وضع الله على سُدّته مُتّخذًا هيئة الحاكم السياسى، وبطبيعة الحال فإن تلك الوضعية تقود إلى إيجاد مندوبين عن الحاكم غير الحاضر، لتنعقد السلطة بالتبعية فى أيدى الفقهاء!

 

فى كتاب "المصطلحات الأربعة" يحصر الإسلام ومجال القرآن فى رباعية تربط الله بالفقهاء، ويقطع بأن غموض تلك المفاهيم دليل لا شك فيه على التباس العقيدة ونقصان العمل والتورُّط فى الشرك، ليؤسِّس بذلك المنطق الوصائى الضيق مساره الذى سيُجيز لاحقًا مواجهة تلك المستويات الكُفرية، ومن ثمّ تبرير القتال ضدها أو على الأرضية المناوئة. وفى كتاب "الخلافة والمُلك" يرى أنه "الانحراف عن حكم الله ورسوله نقيض الإيمان"، ثم يبدأ شرعنة العنف فى كتاب منهاج الإسلام الانقلابى، بالجزم بأن مهمة الإسلام أن ينقلب على نظام العالم ويهدمه "ويقضى على سائر النظم الباطلة"، ويتحقَّق ذلك فى تصوُّره عبر "حزب الله" الذى يستعيره من القرآن ليُمهد به لتدشين فكرة أُممية عن جاهلية المجتمع وديار الكفر وعالمية فكرة الجهاد. ومن تلك المحطة ينطلق إلى شرعنة العنف فى كتاب "الحكومة الإسلامية"، مُعتبرًا أن "من يفهم الأمن على أنه حياة الجميع تحت خيمة النظم الشيطانية فى سلام، دون أن تُراق قطرة من دماء المسلمين، فهو لم يفهم وجهة نظر الإسلام، ولم يُدرك نظريته ومهمّته". وقد اعتبر المودودى أن الجهاد ركن سادس للإسلام ولازم على كل شخص. الكتب الخمس السابقة انتقل منها فكر "المودودى" للجهاديين العرب، عبر تدرُّج حركىّ يبدأ بمفهوم الحاكميّة، ثمَّ الفرقة الناجية التى يمكن أن تنوب عن الله فى الإدارة، ثم جاهليَّة المجتمع وكُفره، وبعدها جهاد العدوين القريب والبعيد، وأخيرًا الانقلاب الإسلامى على العالم!

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة