بعد انهيار السلطة المركزية فى مصر الفرعونية فى فترة الحكم الليبى وما بعدها، أخذ الكوشيون أو النوبيون الموجودون جنوب البلاد ينظرون شمالاً ويتطلعون إلى حكم مصر القوية التى انهارت، غير أنهم لم ينظروا للأمر على أنه غزو للشمال.
طاهرقا
يقول كتاب "الفراعنة المحاربون دبلوماسيون وعسكريون" للدكتور حسين عبد البصير، الحقيقة أنهم رأوا أنه بتوجههم شمالاً سيرممون الدولة العظيمة وينقذون سلطة وسيادة المعبود آمون، ذلك الرب الذى دانوا له بالعبادة والقداسة والولاء منذ أمد بعيد، ولذلك عندما تحرك الملك بيعنخى أو "بيا" إلى الشمال ضد مجموعة مكونة من أربعة ملوك مصريين فى العام الحادى والعشرين من حكمه الكوشى أو النوبى، أى فى حوالى العام 727 قبل ميلاد السيد المسيح، فقد نظر إلى الأمر على أن الملوك الأربعة كانوا بمثابة أطفال صغار خرجوا عن الطوع وكان عليه أن يجعلهم يعودون إلى صوابهم.
وأوضح كتاب "الفراعنة المحاربون" انتصر بيعنخى عليهم وجعل منهم حلفاء وعينهم حكاما محليين فى مقاطعاتهم باستثناء الأمير تف نخت الذى هرب إلى شمال الدلتا محاولاً تجميع قواته، وفى الوقت نفسه، أرسل إلى بيعنخى خطابًا بليغًا يطلب فيه هدنة، ومن هنا جاء الحكم الكوشى أو النوبى إلى مصر والذى نعرفه عادة بحكم الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية فى تاريخ مصر الفرعونية.
الملك طاهرقا
وأضاف كتاب "الفراعنة المحربون"، من سلالة الملك الكوشى أو النوبى بعنخى، جاء الملك الأشهر "طاهرقا" الذى خلف أخاه الملك شبتكو فى حكم مصر كفرعون من أصول كوشية، وفى آشور، فى العراق القديم، والتى سوف تدخل فى صراع مع مصر الكوشية أو النوبية، تم اغتيال الملك سنحريب فى مدينة نينوى العراقية الشهيرة، فى عام 681 قبل ميلاد السيد المسيح، وتولى الحكم من بعده ابنه آسر حدون.
وأشار كتاب "الفراعنة المحاربون"، إلى أنه يعتبر اسم الملك طاهرقا أكثر الأسماء شهرة وارتباطًا بالأسرة الخامسة والعشرين الكوشية، نظرًا لأنه أكثر الفراعنة ذوى البشرة السمراء بناءً وتعميرًا فى مصر، ولا يمكننا أن ننسى العمود الرائع الذى أقامه فى الفناء الأول لمعبد آمون فى الكرنك، والذى كان واحدًا من سلسلة من الأعمدة التى كانت تشكل بناءً عظيمًا فى الكرنك.
وكان الملك "طاهرقا" نشيطًا أيضًا فى منطقة النوبة ففى كاوة، أعاد إعمار الموقع المهجور الذى أسسه الفرعون البنّاء الملك أمنحتب الثالث الفرعون الشمس، وخصصه الملك "طاهرقا" لربه المحبوب الإله آمون، وأقام الملك "طاهرقا" بهذا الموقع بناءً عظيمًا يأتى فى المرتبة الثانية بعد معبد جبل برقل الشهير.
وقال الدكتور حسين عبد البصير، كانت فترة حكم الملك طاهرقا من فترات المواجهة الشرسة مع قوة الإمبراطورية الآشورية الضاربة فى منطقة الشرق الأدنى القديم، ففى عسقلان على الحدود المصرية - الفلسطينية، واجه الملك الآشورى آسر حدون فى عام 673 قبل الميلاد القوى المتجمعة مع المدينة المتمردة وكانت معها مصر، وفى عام 671 قبل الميلاد هاجم الملك الآشورى آسر حدون مصر وتعمق فيها بشدة حتى احتل العاصمة المصرية الأزلية منف، وأسر ولى العهد المنتظر وكل أفراد عائلة الملك طاهرقا ما عدا الملك طاهرقا نفسه الذى هرب إلى الجنوب إلى مدينة طيبة أو الأقصر الحالية.
وتابع، وفى عام 669 قبل الميلاد، عاد الملك الآشورى آسر حدون إلى مصر، غير أنه مات فى الطريق إلى مصر، وخلفه فى الحكم ابنه الملك الآشورى الأشهر آشوربانبيال والذى تراجع عن غزو مصر مؤقتًا، ثم قام الملك الآشورى آشوربانبيال بغزو مصر لاحقًا والقضاء على كل نبلاء الشمال ما عدا عائلة نخاو الأول الذى سوف يأتى من صلبه ملوك الأسرة السادسة والعشرين الصاوية، والتى جاءت من مدينة سايس فى وسط الدلتا المصرية، وبذلك فقد طاهرقا العاصمة منف ثانية، وهرب إلى الجنوب، إلى ما وراء طيبة إلى عاصمته البعيدة ناباتا فى أقصى الجنوب تلك المرة، وبقى عمدة طيبة النبيل الشهير مونتو إم حات محاصرًا يواجه قسوة الغزو الآشورى الذى دمر طيبة وآثارها العريقة انتقامًا من مصر وحكامها الكوشيين الذين كانوا يعاونون حكام بلاد الشام ضد الحكم الآشورى، واستسلم عمدة طيبة مونتو إم حات، وفى عام 665 قبل الميلاد، اختار طاهرقا ابن عمه تانوت آمانى كولى لعهده وكشريكه فى الحكم، ومات طاهرقا فى العام التالى.