لم ألتحق بكلية دار العلوم جامعة القاهرة وفضلت عليها كلية الآداب، لسببين لا ثالث لهما، الأول: الرهبة بسبب صعوبة وتقعر مناهجها الدراسية، الذي روج له بعض معلمي اللغة العربية من خريجي الكلية، والثاني: أنها بيئة للتزمت والتطرف والديني، بينما كانت سمعة "كلية الآداب" أنها بيئة للتنوير وأشياء أخرى. والحقيقة بعد أن نضجت فكريا اكتشفت سذاجة السبب الأول، وأن دراسة دار العلوم تؤسس الدارس بشكل متعمق ومتخصص في علوم اللغة والأدب والفلسفة والدراسات الإسلامية، في منافسة قوية مع الأزهر جامعا وجامعة، وأن خريج "الدار" أكثر تأهيلا وخبرة للعمل في التدريس والصحافة. أما السبب الثاني فكان حقيقة لا تخطئها عين الراصد المعايش لتلك المرحلة، من استلاب الوعي وسيطرة التيارات الدينية المتطرفة على المجال العام في الكلية، حتى ظلمت لدى الرأي العام بأن أصبحت-بمخطط تلفيقي، تعرف بكلية حسن البنا وسيد قطب مؤسسي ومنظري الفكر الإرهابي الظلامي، متجاهلين أن مؤسس دار العلوم(1871م) هو أحد رواد التنوير في مصر والمنطقة، على باشا مبارك(ت 1893) كما تخرج فيها أعلام اللغة والأدب والفكر ومنهم: حفني ناصف وعبد العزيز جاويش والشاعر علي الجارم، وزكي المهندس وتمام حسان وكمال بشر والطاهر مكي وآخرين.
لقد تغيرت الصورة الذهنية لدى دار العلوم إلى حد كبير، بعد سنوات من ثورة 30 يونية 2013، في عهد عميدها الحالي البروفيسور عبد الراضي عبد المحسن الذي تأثر بدراسته للفلسفة وانفتاحه على الغرب فترة دراسته للدكتوراه عن حوار الأديان بألمانيا، فجمع بين التأسيس التراثي والتنوير العقلاني، من خلال تطبيق مشروعه لاستعادة الوعي المستلب لدى طلاب دار العلوم، وقد بدأ تدريجيا بمشروع إعداد مائة قائد، لتحصين الطلاب من براثن الفكر المتطرف، عن طريق مشاركة الطلاب وخصوصا الطالبات في أنشطة المسرح والفنون والإعلام، والمشاركة في الانتخابات سواء الداخلية حتى وصول طالبة لأول مرة رئيسة لاتحاد الطلاب، أو المشاركة في الترويج لنزول الناس للاستفتاءات الدستورية والانتخابات العامة. ويأتي مشروع استعادة الوعي، بهدف تفكيك الفكر المتطرف وتعزيز ثقافة التعايش والتسامح مع الآخر، وترسيخ مفهوم المواطنة واستلهام واستحضار روح الهوية الوطنية المصرية. وتدريب الطلاب على العمل التطوعي، وتأهيلهم لسوق العمل بعد التخرج.
إن مشروع استعادة الوعي معناه وجود خلل ومرض من قبل أسهم في تزييف الوعي لدى الطلاب، عن طريق ممارسة عملية أدلجة وغسل لأدمغتهم من قبل جماعات الإسلام السياسي العابرة للأوطان والدول، لصالح خطط السيطرة والتمكين وإقامة الدولة الدينية، ولذلك استضافت الكلية عددا من الرموز الفكرية والوطنية ومنهم الراحل الدكتور محمود حمدي زقزوق والدكتور سعد الدين الهلالي واللواء فؤاد علام والفنان الكبير محمد صبحي بالإضافة إلى أعضاء بيت العائلة المصرية من الأزهر والكنائس، بهدف مناقشة الطلاب وتدريبهم على لغة الحوار بدلا من العنف وإقصاء الآخر. دون أن تنسى التكوين الثقافي والعلمي وتأصيل مناهج التفكير لدى الطلاب من خلال لقاء الأجيال وحلقات العصف الذهني.
لقد كنت سعيدا عندما أهدتني إحدى الطالبات في أثناء زيارة وفد "دار العلوم" لليوم السابع رواية من تأليفها طبعتها بمال ادخرته لشهور في جمعية مع زميلاتها، وأخرى قدمت مقالا فيه رؤية عصرية عن آية "فاضربوهن" وأن الإسلام لم يأمر بضرب النساء.
إن معركة استعادة الوعي تعني تضافر كل الجهود والخبرات في داخل الجامعة وخارجها، حتى لا نعود للوراء بكل فشله وخيبته من سيطرة الاستبداد الديني، واستلاب العقل الجمعي، ولنبدأ بالطلاب بذرة الحاضر وأساس المستقبل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة