مع كل الآلام التى يسببها فيروس كورونا، أظن أن الفيروس يدفع كل الدول، ومنها مصر إلى إعادة التفكير فى أولويات العلاج والدواء والمنظومة الطبية، ومثلما أعاد الفيروس التذكير بما جرى لمستشفيات الحميات فى مصر، وما تعرضت له من إهمال واستهانة وتقليص فى إعدادها فى وقت كانت الأمراض الفيروسية والأوبئة تهاجم العالم على مدى ربع قرن.
خلال العقود الأخيرة ظهرت هجمات أنفلونزا الطيور ثم أنفلونزا الخنازير، وسارس وكورونا الأول، وقبلها الإيبولا وحميات أخرى، فضلا عن تجدد الأمراض القديمة كالسل أو وجود موجات للتيفويد. ثم إن فيروس الكبد الوبائى سى ظل طوال ثلاثة عقود يأكل أكباد المصريين ويقتل عشرات الآلاف سنويا.
كل هذه الأمراض كانت تستدعى وجود بنية طبية قوية من مستشفيات الحميات، وتطوير طب المناطق الحارة وأبحاث الفيروسات والطفيليات وغيرها، وهى تخصصات تصاعدت فى مصر من الستينيات وهى الفترة التى شهدت إقامة بنية صحية جيدة، وضع أساسها وتوسع بها الراحل الدكتور النبوى المهندس وزير الصحة، العظيم الذى زرع مستشفيات عامة ومركزية ووحدات صحية ظلت تمثل البنية الصحية طوال عقود وكانت مناسبة لعدد سكان 30 مليونا.
كان الطبيعى دعم وتوسيع هذه البنية والتوسع فى مستشفيات الحميات وطب المناطق الحارة والطب والوبائى، لكن ما جرى كان العكس. فقد ظلت هذه المؤسسات قائمة بالقصور الذاتى، حتى أقدم وزير الصحة الأسبق حاتم الجبلى على إلغاء عدد كبير من مستشفيات الحميات، وألحق بعضها بعد تحويلها إلى أقسام بالمستشفيات العامة المركزية.
المفارقة أن ما تبقى من هذه المستشفيات شارك فى المواجهة بطريقة ما فى مواجهة كورونا، وأعادت التذكير بجريمة إلغاء أكثر من نصف المستشفيات الحميات، التى تقوم بدور مهم فى مواجهة الأمراض المتوطنة أو الأوبئة.
الواقع أن كورونا لم يذكر فقط بجريمة إلغاء نصف مستشفيات الحميات فقط، لكن أيضا بخطوات قلصت من دور هيئة المصل واللقاح ومصنع فاكسيرا التابع للدولة والخاص بإنتاج الأمصال واللقاحات، وكانت هيئة المصل واللقاح صامدة إلى أن دخل الوزير الأسبق فى صدام مع الدكتور محمد العبادى، والذى ساهم من التسعينيات فى تطوير المصل واللقاح، الصدام انتهى بخروج الدكتور العبادى وتراجع دور المصل واللقاح.
كان هذا فى وقت يفترض أنه يحتاج إلى جدور أكبر لهيئة مثل المصل واللقاح أو شركات إنتاج الدواء، وكنت شاهدا بحكم عملى ملف الدواء والأمصال، كيف تم انتزاع الفاعلية من صناعات دوائية أو مستشفيات، وتعرضت هذه الصناعة بسبب عوامل كثيرة لظروف قللت من قدرات مصر على إنتاج الدواء، بالرغم من أن هذه الصناعة كانت بالفعل ذات تاريخ، بحاجة إلى تطوير تكنولوجى يتماشى مع تطورات العصر.
بالعودة إلى هيئة المصل واللقاح، فقد لعبت دورا فى توفير الكثير من الأمصال واللقاحات، يغطى جزءا كبيرا من الاستهلاك المحلى ويبقى للتصدير، إلى أفريقيا ودول عربية، لكن مع الوقت تراجع هذا الدور، حتى عاد إلى الظهور فى ظل أزمة كورونا، وربما قبلها.
وحتى لا نقف عند الماضى، يفترض التفكير فى كيفية استعادة دور هيئة المصل واللقاح وتطويره، ونفس الأمر فيما يتعلق بصناعة الدواء، وهو موضوع آخر.
إن وجود معامل وإمكانات تصنيع، يمكن أن تمنح فرصة للهيئة بالحصول على حق تصنيع لقاحات، مثلما يجرى مع الهند التى تمتلك واحدا من أكبر معامل إنتاج اللقاحات، والهند بدأت صناعتها الدوائية معنا.
مصر لديها كوادر من خريجى العلوم والصيدلة والعلوم الطبية بعضهم لا يجد عملا، بينما هؤلاء قاعدة بشرية يمكن بالتدريب وبعض الدراسة أن يصبحوا كوادر مهمة فى صناعة مطلوبة، وهناك ظروف متاحة فى ظل توفر إرادة لدى الدولة فى استعادة الكثير من الصناعات التى أطاح بها الإهمال وعشوائية الخصخصة.