مرة أخرى تثبت مصر قدرتها على إدارة الملفات الصعبة بمزيج من الصبر والتمسك، وتؤكد حسن نيتها تجاه قضية سد النهضة، مع التأكيد على التمسك بحقوق المصريين فى مياه النيل، وفى نفس الوقت تواجه الملفات المتعلقة بأمنها من دون تجاهل لأحدها أو تقديم ملف على حساب آخر، وتستخدم أوراقها بكفاءة، وتأتى النتائج لتجيب على الأصوات المرتبكة أو المرتعشة أو المتربصة بحسم.
وأى مراقب منصف، يدرك أن مصر تواجه تحديات متعددة، ومن أطراف مختلفة، وتعالج كل هذا من دون تشنج أو انفلات، ولعل التصريحات التى أدلى بها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى المنطقة الغربية، مثال على هذه السياسة، فقد كانت تصريحات مقتضبة ومركزة، وتتوجه برسائلها إلى أطرافها، وانعكس هذا فى هيستيريا تمثلت فى عشرات البرامج والتصريحات التى عبرت عن فقدان معسكر العداء لتوازنه، فلجأوا إلى الأكاذيب، والتحريض بينما بقيت الإدارة المصرية فى طريقها بعيدا عن الاستفزاز والارتباك.
كان الموقف المصرى تجاه القضية الليبية، هو رفض الميليشيات والأطراف الخارجية والمغامرات، مع تحذيرات واضحة، لم تدع مصر للحرب، لكنها أبدت التأكيد على الاستعداد لكل الاحتمالات، وخلال أيام توالت التحركات الدولية تتحدث عن تفكيك المرتزقة ووقف التدخلات.
بالطبع فإن لكل طرف مصالحه، ومصر تدرك أطراف الصراع ومصالح الأطراف المتعددة، وتتعامل بناء على أوراق وخرائط، وليس قفزا فى الفراغ، ووصل الارتباك أقصاه بتساؤلات ساذجة عن مصر التى تترك الجنوب وتتجه غربا، لكن الإجابة كانت واضحة، وفى حين تحركت الأطراف فى القضية الليبية باتجاه الحل السيسى، تحركت الأوراق فى الجنوب.
مصر واصلت خلال السنوات الأخيرة جهودها متحلية بصبر وضبط نفس كبيرين، خاصة تجاه بعض التصريحات أو التصرفات التى كانت تسعى لاستفزاز أو انتزاع ردود أفعال هنا أو هناك يمكن توظيفها، لم تتعامل مصر كرد فعل وإنما حددت تحركاتها بناء على معطيات واضحة وأهداف محددة.
وبعد التعهد الإثيوبى بعدم ملء سد النهضة قبل التوصل لاتفاق، بعد جلسة لهيئة مكتب الاتحاد الأفريقى، وهى خطوة تنتظر مصر ما بعدها من حيث الانتهاء من اتفاق تأخر من فبراير بعد رفض الجانب الإثيوبى التوقيع عليه فى واشنطن فى حين وقعت مصر، ثم جولات أخيرة لم تسفر عن شىء.
كان الموقف المصرى واضحا من البداية، لسنا ضد التنمية فى إثيوبيا، ووقعت اتفاق المبادئ عام 2015 مع كل من إثيوبيا والسودان وهو اتفاق يحدد الأطر والحقوق ويترك التفاصيل للاتفاق النهائى والذى تعثر، وخلال الأسابيع الماضية صدرت تصريحات غريبة من الجانب الإثيوبى، عن البدء فى ملء السد باتفاق أو من دون، وهو ما دفع مصر لتتجه إلى مجلس الأمن، وتبعتها السودان بمذكرة تحدد مطالب الخرطوم.
كان تدخل الاتحاد الأفريقى مهما، لكنه لم يكن مناسبا فى فترات سابقة، حتى لا يتم تفسير الأمر بشكل ملتبس، وبالطبع كان التحرك نحو مجلس الأمن، تأكيدا مصريا على استنفاد الوسائل المختلفة للتوصل إلى اتفاق، فضلا عن رفض الجانب الإثيوبى أن يكون الاتفاق ملزما لأطرافه وأن يحدد كيفية التحكيم عند وجود مشكلات.
لقد ظهرت أصوات كثيرة تلوم القياد السياسية على توقيع اتفاق المبادئ، بينما كان الإثيوبيون يعتبرون أنهم تورطوا فى الاتفاق، بالرغم من أن مصر كانت واضحة فى رغبة التوصل إلى إطار يحكم حقوق دول المنبع والمصب.
لقد كان موضوع السد أحد الموضوعات التى شهدت تداخلات وتقاطعات من أطراف كثيرة، حتى تدخل الاتحاد بمبادرة من رئيس جنوب إفريقيا والتأكيد على ضرورة التوصل لاتفاق قانونى ملزم لأن أى اتفاق لا يتضمن هذا لا يعد اتفاقا، وأن تكون القواعد واضحة فى الحفاظ على مصالح الدول الثلاث ومن أولويات مصر أن يتم ملء السد دون الإضرار بمصالح مصر والسودان.
ولاشك أن المسار الأفريقى مهم والتفاصيل الأخيرة يمكن أن تكون أساسا للتوصل إلى اتفاق، فى حالة توفرد إرادة حقيقية لدى إثيوبيا، وربما تتقدم الأمور نحو اتفاق نهائى، أو تستمر المماحكات السابقة، لكن الدرس الأهم أن الدولة جاهزة، والأجهزة تعمل بكفاءة وتستحق الثقة، ولا تلتفت إلى أصوات مرتبكة أو مرتعشة، لأنها تعمل بإدراك لخرائط المناورة والسياسة والمصالح وهى خرائط معقدة.