أسوأ ما قد يعانيه الناس فى أوقات انتشار الأوبئة هو استغلال البعض للأزمة لرفع الأسعار، أو سحب الناس وتخزينهم لعدد كبير من السلع ما يشكل فى غلاء هذه الأسعار، وهو الأمر التى حذرت منه الحكومة فى أكثر من مناسبة، بعد تفشى أزمة انتشار فيروس كورونا المستجد.
ويبدو أن أزمة غلاء الأسعار واختفاء السلع، مرتبطة ارتباط وثيق بانتشار الأوبئة والطواعين، وربما كتب التراث والدراسات التاريخية شاهدة على العديد من المواقف التى ربطت بين غلاء الأسعار وجشع التجار فى زمن الأوبئة وانتشار الطواعين.
ووفقا للباحث مبارك محمد الطروانة، فى دراسة بعنوان "الأوبئة (الطواعين) وأثارها الاجتماعية، فى بلاد الشام فى عصر الدولة المملوكية" فمن الناحية الاجتماعية، أدت الأوبئة في العهد المملوكي مثلاً إلى اختلال التركيبة السكانية، والذي أدى بدوره إلى تباين كبير فى الكثافة السكانية بين المدن والقرى، إذ أن كثيراً من القرى اختفت تماماً بفعل الوباء، فنتج عن ذلك تغير ديموغرافي، حيث قل عدد الفلاحين، قلت المنتجات والمحاصيل الزراعية والحيوانية، ونتج عن ذلك كله غلاء شديد فى الأسعار زاد الأوضاع الاقتصادية سوءاً، ولجأ بعض ضعاف النفوس من التجار وأرباب الصنائع إلى استغلال الأزمة باحتكار السلع الأساسية لزيادة ثروتهم، بينما مال بعض المحتاجين والمعدمين إلى السرقة والاحتيال، والذى أدى بالضرورة إلى انهيار أخلاقي في المجتمع.
ويحكى المؤرخ ابن إياس فى كتابه "بدائع الزهور فى وقائع الدهور" عن مشهد من مشاهد وباء الطاعون الكبير الذى ضرب مصر ما بين عامى 1347-1349م، وما ألحقه من أزمات اقتصادية، قائلا : واشتد أمر الفناء والغلاء بالديار المصرية، وعم سائر ضواحيها ومات من أهل القاهرة والفلاحين نحو النصف، فلما اشتد أمر الغلاء وكثر الطعن، نادى السلطان فى الناس أن يصوموا ثلاثة أيام متوالية وأن يخرجوا إلى الجوامع ".
وبحسب الباحث أحمد صبحى منصور، فى دراسة بعنوان "أكابر المجرمين فى طاعون 833"، فإن الطاعون لم يوقف جشع السلطان المملوكى برسباى، والذى كان مشهورا باحتكار التجارة الشرقية، حيث كان يؤتى بها من الهند الى جدة ( فى الحجاز التابع للدولة المملوكية)، ويتم نقلها من البحر الأحمر (القلزم) إلى القاهرة ومنها بالنيل إلى الإسكندرية ليشتريها التجار الإيطاليون .
ووفقا لكتاب "أسواق فاس فى العصر المرينى" تأليف هالة عبد الرازق محمد، فإنه عندما ضرب الطاعون الكبير مدينة فارس المغربية، حل الجفاف، وارتفعت الأسعار، وانهارت أسواق فاس، وذلك فى عهد السلطان أبى زيان المرينى، وقد وصف هذا الطاعون بأنه لا تبصر ميتا يخرج وكميت إلى جنازة يسرج، ويذكر ابن الرندى تضاعف الأسعار بأسواق مدينة فاس، حيث تضاعف ثمن الحنطة عما كان من قبل فارتفع من عشرة دراهم إلى خمسة عشر درهما للصاع، واشتد البلاء بأهل المدينة مع بداية عام 1415م، بسبب الوباء، حييث قتلت أعداد كبيرة لا حصر لها.
ويعطى على بن عبدالله بن محمد بن حيدور فى كتابه "التمحيص فى شرح التلخيص" أسبابا أخرى لانتشار الأوبئة والجوائح فى الأقطار، حيث ربطها بالجفاف وقلة الغذاء التى تدفع الناس إلى عدم الاحتياط، ما يسبب الوباء، فـ"فساد الأغذية المستعملة فى زمن المجاعات وغلاء الأسعار يضطر الإنسان إلى تناول غذاء غير مألوف قد فسد وتعفن لطول زمانه فينفسد المزاج من هذه الأغذية، وتحدث الأمراض القاتلة".
وفى كتاب "جوانب من الحياة السياسية الاقتصادية والاجتماعية في العصر المملوكى" يذكر المؤلفين، فتحى سالم حميدى اللهيبى، فائز على بخيت الحديدي، أنه فى مستهل رمضان سنة 1488م، ضربت مصر أزمة اقتصادية، أدت إلى موجة غلاء شديدة، نتج عنها تفشى وباء الطاعون فيها، وكانت القاهرة إحدى مدنها المنكوبة، إذ وصل عدد ضحاياه ما بين (4000- 5000) نسمة، ومعظمهم من المماليك والجوارى والعبيد والأطفال، إلا أنه أخذ يتناقص فى العشرة الثانية من رمضان، وتوفى فيه ابنة أحمد بن السلطان برسباى وأمها وخالتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة