"آيا صوفيا" ليست مجرد بناء أثرى يقصده كل من تطأ قدماه أسطنبول، ولا مجرد مزار سياحي يحظى بشهره عالمية قط، بل هو رمز دينى كبير يجمع المسيحيين والمسلمين معا، ويحكى تاريخ حقبة طويلة من الإمبراطوريتين البيزنطية المسيحية والعثمانية الإسلامية، ورغم أن آيا صوفيا تلك الكنيسة الكبيرة التى بناها الإمبراطور جوستنيان الاول عام 532 لم تعانى الاضطهاد عندما جاء الفتح الاسلامى، بل حافظوا على الكنيسة بما تحتويه من رسومات فنية لها قيمة دينية كبيرة، وأبقوها على حالها حتى يومنا هذا، إلا أنها تستغيث بالعالم اليوم من محاولات أردوغان لطمس هويتها الثقافية، بعد أن وقع الرئيس التركي مرسوما يقضي بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد.
آيا صوفيا
ويحكى لنا التاريخ أنه عندما دخل الدين الاسلامى للقسطنطينية عام 1453 وكان لا يوجد للمسلمين في المدينة "جامع" ليصلوا فيه "الجمعة" التي تلت الفتح، فلم يسعف الوقت من تشييد جامع جديد في هذه المدة الزمنية الضئيلة، فأمر السلطان بتحويل "آيا صوفيا" إلى جامع، ثم بعد ذلك قام بشرائها بالمال، وأمر كذلك بتغطية رسومات الموزائيك الموجودة بداخلها ولم يأمر بإزالتها، حفاظًا على مشاعر المسيحيين، وما زالت الرسومات موجودة بداخلها إلى الآن.
حتى جاء الرئيس مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الدولة الحديثة ليحولها فى عام 1934 إلى متحف ملك للعالم أجمع من كل الاديان، والذى أدرجته اليونسكو فيما بعد لقائمة التراث العالمى، ليتحول إلى أشهر المزارات العالمية حيث يضم تحت قبته ملايين الزوار سنويا من مختلف الجنسيات الذين يقصدون اسطنبول بهدف زيارة هذا الاثر الخالد.
وبعد كل تلك العقود يحاول الرئيس التركى أردوغان الاتجار بهذا الاثر بإثارة قضية تحويله مجددا لمسجد يفتح أبوابه للصلاة، بعد الافتاء بعدم احقية قرار كمال اتاتورك بتحويل المسجد لمتحف عام 1934، وذلك بناء على اقتراح من أردوغان.
"آيا صوفيا" تحول إلى جدل كبير وشد وجذب بين بعض الدول وتركيا، حيث عبر المسؤولين الأمريكيين والفرنسيين والروس واليونانيين وكذلك زعماء كنائس مسيحية عن قلقهم من القرار، فيما تحول إلى حالة تلاسن على مواقع التواصل الاجتماعى بين مؤيد ومعارض للقرار، حتى أنه أحدث شرخا فى صفوف الشعب التركى.
وينتظر المجتمع الدولى موقف اليونسكو بعد قرار تركيا الرسمى، حيث كان قد حذر من اى قرار أحادى الجانب فى قضية المتحف، وقالت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) إنه يجب إبلاغها بأي تغيير في وضع متحف آيا صوفيا في اسطنبول الذي يعود للقرن السادس وربما يتعين على لجنة التراث العالمي التابعة لها مراجعة هذه التغييرات.
آيا صوفيا
وأكدت اليونسكو إن آيا صوفيا على قائمتها لمواقع التراث العالمي كمتحف وعلى هذا النحو لديها التزامات وتعهدات قانونية معينة، وقالت "بالتالي، يجب على الدولة أن تتأكد من عدم إجراء تعديل من شأنه أن يقوض القيمة العالمية البارزة لموقع مدرج، على أراضيها".
وأضافت أن "أي تعديل يجب أن تخطر الدولة يونسكو به وأن تراجعه إذا لزم الأمر لجنة التراث العالمي".
وقالت يونسكو إنها عبرت عن مخاوفها للسلطات التركية في عدة رسائل ونقلت الرسالة إلى سفير تركيا لدى المنظمة يوم الخميس، وحثت السلطات التركية على بدء حوار قبل اتخاذ أي قرار يمكن أن يقوض القيمة العالمية للموقع". تفسيرات كثيرة ذهبت بإثارة هذه الازمة حاليا، جميعها تصب فى خانة محاولات الرئيس التركى للتغطية على اخفاقاته فى ملفات عديدة سياسية فى المنطقة، ولكن الاهم هو أن القضية تأتى للتغطية على فشل حكومته فى استعادة الحركة السياحية من أوروبا، بعد تصنيف الاتحاد الاوروبى لها بمنطقة موبؤة.
وحاول وزير السياحة ووزير الخارجية التركى من خلال زيارات مكوكية لعدد من الدول الاوربية تسول الوفود السياحية، إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل وقال وزير الخارجية الاتحادي الألمانى أن تحذير السفر إلى تركيا لن يتم رفعه في الوقت الحالي، وعاد وزراء أردوغان يجرون أذيال الخيبة.
ورغم أن تركيا كانت من أوائل الدول التى اعلنت عن بروتوكولات صحية لاستعادة الحركة السياحية إلا أنها لم تنجح فى جذب سائح واحد إلى أراضيها، وتعانى الان من أزمة اقتصادية كبيرى بسبب توقف حركة السياحة.
وقال الخبير السياحى دكتور سعيد البطوطى ان محاولات تركيا تحويل آيا صوفيا لمسجد من الصعب جداً تطبيقها في الواقع نظراً لأن هذا الأمر سوف تعارضه بشدة اليونان علاوة على أن آيا صوفيا موقع تراث عالمي تشرف عليه اليونيسكو ولا يمكن أن يتم عمل أي شيء دون موافقتها.
وأضاف البطوطى :"لا يجد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان غضاضة في الاتهامات الموجهة إليه باستخدام الدين كورقة في العملية السياسية، فعل ذلك عقب محاولة الانقلاب العسكري المشكوك فيها التي شهدتها أنقرة في عام 2016 وكررها مرات ومرات".
آيا صوفيا
وأشار إلى ان أحدث هذه المحاولات تصريحاته المثيرة التي كشف فيها أردوغان عن توجيه أصدره للسلطات المعنية ببحث تحويل متحف "آيا صوفيا" إلى مسجد، حيث يدرك الرئيس التركي دلالة هذا المكان لدى المسلمين، إذ يُعد رمزا للانتصار في تاريخهم، وهو ما يفسر تلويحه لمرات عديدة بعودة «أيا صوفيا» إلى مسجد.
وخلال حملته الانتخابية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وعد أردوغان الأتراك بتحويل «أيا صوفيا» إلى مسجد، لكنه عاد عقب فوزه للتراجع عن هذه الوعود، قائلًا إنه لو تم تحويل «أيا صوفيا» لمسجد فستتضرر عشرات المساجد بأوروبا، مشيرا إلى ان أوروبا تتعامل مع «أيا صوفيا» على أنه رمز ديني فقدوه، إذ يُعد أحد أقدم الآثار البيزنطية في العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة