إذا أردت أن تعرف الفارق بين السياسي وقاطع الطريق فانظر إلى كمال الدين أتاتورك ورجب طيب أردوغان، الأول لا يشك أحد في وطنيته وحبه لبلده، والثاني لا يتشكك أحد في مدى حبه لنفسه فحسب، ولهذا حاول كمال أتاتورك أن يصحح خطأ تاريخيا كبيرا يصم الإسلام والمسلمين ويضعهم في زمرة البرابرة، فحول "جامع" أيا صوفيا" إلى متحف، لأن هذا الجامع لم يكن جامعا في الأساس، وإنما كان كنيسة بيزنطية بناها الأمبراطور البيزنطي جستنيان وجمع لها أمهر الحرفيين وأكبر المهندسين لتكون محلا لأهم الابتكارات المعمارية وأحدثها، ثم أمتى السلطان "محمد الثاني" المعروف باسم محمد الفاتح وحولها إلى مسجدا في تصرف أقل ما يوصف الآن بالبربرية والهمجية، وحينما وجد أتاتورك هذا المشهد البائس أراد أن يغيره ليزيل وصمة العار الأبدية عن تركيا فابتكر حلا سياسيا ذكيا وحول هذا المسجد إلى متحف وهو أمر حميد وسلوك متبع في كثير من المنشآت الدينية في العالم كله، لكن أردوغان لم يعجب بهذا الأمر وعلى غرار المراهقين المتطرفين أمر قضائه بإصدار حكم بتحويل هذا المتحف إلى مسجد مرة أخرى.
كانت كنيسة فتحولت إلى مسجد ثم تحول المسجد إلى متحف، ثم تحول المتحف إلى مسجد، ولو نطقت أحجار "أيا صوفيا" لصرخت من هذه التحولات الهمجية الهوجاء، وفي الحقيقة لكي نفهم فداحة الجرم الذي ارتكبه أردوغان فلابد لنا أن نستعرض السياق التاريخي لهذه التحولات، وأني وإن كنت لا أستسيغ فكرة تحويل مكان عبادة من ديانة إلى أخرى فإني على الأقل أستطيع أن أفهم فكرة تحويل كنيسة أيا صوفيا إلى مسجد على يد محمد الفاتح، لأن المنشآت الدينية في هذا الوقت لم تكن تحمل قيمة روحية وتاريخية كبيرة هذا بالطبع إذا استثنينا المنشآت ذات الطبيعة المقدسة مثل المسجد الحرام والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وغيرها، بالإضافة إلى هذا فقد كانت العلاقة بين الأديان وقت أن حول محمد الفاتح الكنيسة إلى مسجد علاقة "محو" كل أتباع ديانة يريدون محو كل مظاهر الأديان الأخرى في القلوب والعيون أيضا.
لهذا أمر محمد الفاتح بتحويل هذه الكنيسة إلى مسجد رغبة منه في محو الديانة المسيحية من هذه الأرض التي كانت ذات يوم معقلا للديانة المسيحية، وهو أمر كان متبعا في كثير من الأوقات، ولنا أن نعرف أن العرب المسلمون فعلوا هذا الأمر كثيرا، والأنكى من هذا أنهم كثيرا ما كانوا يهدمون الكنائس والمعابد ليحصلوا على ما بها من كتل حجرية وأعمدة جرانيتية لأن جلب الأحجار والأعمدة من المحاجر يكلف كثيرا، ولهذا نرى الكثير من "الصلبان" على أعمدة المساجد في مصر كما في حال مسجد عمرو بن العاص، كما نرى أيضا الكثير من الأحجار المنزوعة من المعابد الفرعونية كما في حال مسجد الأشرف برسباي وأسوار القلعة وحتى المسجد الحسيني، بل والأهم والأغرب من هذا هو أن حجر رشيد الذي يعد أهم كشف أثري في العالم تم اكتشافه في قلعة رشيد بعدما استخدم كمادة بناء، كما يوجد في مصر الكثير من الكنائس المسيحية التي أستخدمت الأحجار الفرعونية كمادة بناء، وهو ما يؤكد أن الآثار في هذا العصر لم تكن تحظى بنفس العناية التي تحظى بها الآن لأن العقول كانت على قدر كبير من التخلف والرجعية، ولأن العلوم لم تكن في أحسن حالاتها.
بناء على ما ذكرت فإني قد أفهم فكرة تحويل محمد الفتاح كنيسة أيا صوفيا إلى جامع، وأستطيع أن أفهم بمزيد من التقدير أن يتم تحويل الجامع إلى متحف على يد أتاتورك، أما تحويل المتحف إلى جامع مرة أخرى فهو أمر يتسم بالكثير من البربرية والغباء في آن، فلن يسهم هذا القرار في شيء ولن يستطيع أن يمحو الديانة المسيحية، ولن يضيف شيئا إلى الإسلام ولا المسلمين، وسيظل هذا المكان حاملا لاسم القدسية المصرية "صوفيا" التي يقال إن هذه الكنيسة بنيت تمجيدا لها، كل ما هنالك أنه سيؤكد فكرة الغرب عن الإسلام والمسلمين باعتبارهم أهل جهل وتخلف تماما كما هدمت جماعة طالبان تماثيل بوذا منذ 19 عاما غير عابئة بمناشدات المجتمع الدولي ولا اعتبار لمشاعر البوذيين، وهو ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن أردوغان لا يختلف كثير عن هؤلاء الإرهابيين في شيء وأنه أساء إلى الإسلام بتلك بهذه التصرفات العمياء التي لا يبغى من ورائها سوى الفرقعة الإعلامية ودغدغة مشاعر المتطرفين في العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة