نواصل مع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد ( 1889 -1964) قراءة مشروعه الفكرى الذى قدم خلاله العديد من الأفكار، التى خرجت من بيئة عربية مصرية إسلامية، لتصنع له خصوصية مهمة، واليوم نتوقف مع كتابه "أبو العلاء".
صدر الكتاب فى عام 1939 وفى المقدمة كتب العقاد تحت عنوان "علامات الخلود" يقول:
ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حق فى الخلود:
فرض الإعجاب من محبيه ومريديه، وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه، وجوٌّ من الأسرار والألغاز يحيط به كأنه من خوارق الخلق الذين يحار فيهم الواصفون ويستكثرون قدرتهم على الأدمية، فيردون تلك القدرة تارة إلى الإعجاز الإلهى، وتارة إلى السحر والكهانة، وتارة إلى فلتات الطبيعة إن كانوا لا يؤمنون بما وراءها.
وهذه العلامات الثلاث مجتمعات لأبى العلاء على نحو نادر فى تاريخ الثقافة العربية، لا يشركه فيه إلا قليل من الحكماء والشعراء؛ فهو فى ضمان الخلود منذ أحبَّه مَن أحب، وكرهه من كره، وتحدث عنه من تحدث كأنه بعض الخوارق والأعاجيب.
بلغ من منزلته بين مريديه أن وقف على قبره نيف وثمانون شاعرًا يرثونه بُعَيْدَ وفاته.
وبلغ من إنكار حساده والجاهلين به أنهم جعلوه من أهل الجحيم، وألحقوه بأحقر ما يُسب من الحيوان، واستجهلوه غاية الجهل، واتهموه فى فهمه وذكائه!
قال رجل وقد عثر به: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا!
وذكر ياقوت بعض كلامه فى معجمه ثم قال: "كان المعرى حمارًا لا يفقه شيئًا، وإلا فالمراد بهذا بيِّن!"
وسئل عنه على بن الحسن المعروف بشُميم وهو من نُحاة القرن السادس، فغضب وقال لسائله ناهرًا: "ويلك! كم تسىء الأدب بين يدى؟ من ذاك الكلب الأعمى حتى يُذكر بين يدى فى مجلسي؟!"
وهناك أناس استعظموه ولكنهم لم يفهموه ولا حقدوا عليه! وحسبوا أن قدرة الإنسان لا ترتقى هذا المرتقى، وأن سر بنى آدم لا يخفى هذا الخفاء، فألحقوه بعالم المجهول ووصلوا بينه وبين سيطرة الفلك وقضاء الأقدار.
قالوا إن محمود بن صالح صاحب حلب اتهمه بالزندقة، فأمر بحمله إليه من المعرة، وبعث خمسين فارسًا ليحملوه، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان وقال: يا ابن أخي! قد نزلت بنا هذه الحادثة، فإن منعناك عجزنا، وإن أسلمناك كان عارًا علينا عند ذوى الذمام، ويركب تنوخ الذل والعار. فقال أبو العلاء: هوِّن عليك يا عم! ولا بأس عليك، فلى سلطان يذب عني. ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظر إلى المريخ أين هو؟ فقال فى منزلة كذا وكذا … فقال: زنه واضرب تحته وتدًا، وشدَّ فى رجلى خيطًا واربطه إلى الوتد. ففعل غلامه ذلك، وسمعوه وهو يقول: يا قديم الأزل! يا علة العلل! يا صانع المخلوقات وموجد الموجودات. أنا فى عزك الذى لا يُرامُ، وكنفك الذى لا يضام … الضيوف الضيوف! الوزير الوزير! ثم ذكر كلمات لا تفهم … وإذا بهدَّة عظيمة! فسأل أبو العلاء عنها فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها فقتلت الخمسين … وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر: لا تزعجوا الشيخ فقد وقع الحِمام على الوزير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة