هذه نقطة فارقة فى تاريخ مصر، فمصر التى نشهدها اليوم تختلف كثيرا عن مصر الأمس، مصر الأمس كانت تستجدى الاستقرار، مصر اليوم تصدر الاستقرار، مصر الأمس لا تعرف ما هو شكل الغد، مصر اليوم تعرف شكل الغد، مصر الأمس تترنح، مصر اليوم عمود استقرار المنطقة، مصر الأمس غارقة فى مشكلاتها الداخلية، مصر اليوم مشتبكة مع مشكلات إخواننا فى الشرق والغرب بإيجابية، مصر الأمس لا تستطيع الوفاء باحتياجاتها اليومية، مصر اليوم تخطط لمستقبل أبنائها وتمهد لهم الطريق لتوفر عليهم عناء التأسيس.
يخبرنا التاريخ المصرى بهذه الحالة، ويقول لنا إن مصر إذا خرجت من حدودها تحولت فى لحظة إلى قوة عالمية لا يستهان بها، ولم تكن مصر يوما دولة احتلال أو اغتصاب، بل كانت دولة محبة وخير ونماء، منذ عصر ملك مصر العظيم تحتمس الثالث الذى وصلت حدود مصر فى عهده إلى سوريا وحدود العراق فى الشرق والجندل الرابع فى الجنوب، وقد تصاهر مع رؤساء الشام وتعاهد معهم وكان يولى عليهم من يرضونه ويحرص على أن تستتب أمور البلاد التى خرج إليها، وكذلك فعل فى الجنوب بدليل أن حاكما جنوبيا هو الحاكم بعنخى حكم مصر بعد ذلك، فكانت مصر بهذا السلوك الرشيد منبرا لإشاعة النور والمحبة والإخاء، ولم تكن دولة اغتصاب أو اعتداء.
نفس الأمر تكرر مع دول حاكم مصر العظيم الناصر محمد بن قلاوون الذى ما إن استتب له الأمر فى مصر حتى تحولت مصر إلى قوة عالمية كبرى حيث أصبحت القاهرة قبلة للمتوددين والزوار من شتى الأرجاء، وخطب باسم الناصر على منابر بغداد ونقش اسمه على نقودها، كما خطب له ملوك بنى رسول فى اليمن للناصر وأرسلوا له الهدايا، وخطب للناصر فى دولة بنى قرمان فى آسيا الصغرى، وعلى منابر تونس وطرابلس الغرب وماردين، وقد كان الدعاء للحاكم على المنابر والخطبة باسمه دليل على تملكه أمر البلاد، كما أقام الناصر علاقات ودية بينه وبين ملوك الهند والصين وملوك غرب أفريقيا وكان من ألقابه خادم الحرمين الشريفين، وأشرف على الحجاز وتهامة وأذعن له أمراء المدينة ومكة، وكثر وصول السفارات التى تخطب ودنا إلى مصر من ملوك أوروبا والعالم المسيحى فوصلت سفارات من بابا الكاثوليك، وملك فرنسا، وملك أرجونة، وإمبراطور القسطنطينية، وإمبراطور الحبشة، وتوسل إليه بابا الكاثوليك بأن يحمى المزارات المقدسة وأن يوقف الحملات على أرمينيا الصغرى، وحينما تطاول عليه فيليب السادس ملك فرنسا وأرسل إلى القاهرة سفارة ضخمة قوامها 120 رجلا، طالباً من الناصر منحه بيت المقدس وبعض المناطق على ساحل الشام، ضرب الناصر هؤلاء الـ 120 ورئيسهم، وقال لهم : "لولا أن الرسل لا يقتلون لضربت أعناقكم "، وطردهم من مصر .
هكذا تصبح مصر إذا خرجت من حدودها، والتفتت إلى محيطها الإقليمي، وهكذا تتحول فى لحظة إلى قوة عالمية تنشر المودة والمحبة على الجميع، وكذلك حدث أثناء فترة حكم محمد على لمصر، حيث وصلت القوات المصرية إلى حدود الأستانة، وهددت عرش السلطان العثمانى ولولا تحالف العالم ضدها لأقصت الأتراك عن حكم بلاد الإسلام إلى غير رجعة، وفى العصر الحديث، نمى الجيش المصرى على يد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ومد يد العون إلى طلاب الحرية فى العالم العربي، فامتدت المساعدات العسكرية والاقتصادية إلى الغرب والشرق والشمال والجنوب، وصارت مصر نواة لوحدة عربية منتظرة، لولا انتكاس هذا المشروع فى 1967، لكن برغم وأد الحلم العربى وقتها مازال العرب يحلمون بكيان قومى يضم شتاتهم وهو الحلم الذى مازال يجد صدى حتى الآن بفضل التجربة الناصرية الجسورة.
ما أشبه اليوم بالبارحة، فى هذه الحالات الأربع التى ذكرتها كانت مصر فى أسفل سافلين، ثم أتى لها الحاكم المخلص فحولها من حال إلى حال، فقبل تحتمس الثالث كانت مصر تحت حكم الملكة حتشبسوت التى نالت شهرة عالمية بسبب رحلاتها وعلاقاتها الدولية، لكن ما لا يخفى على أحد أن جيش مصر وقتها كان يعيش وقتا عصيبا، وامتلأت البلاد بالفتن والمؤامرات، ثم جاء تحتمس من بين التخبط وصنع المعجزة، وهو ذات الحال فى عصر الناصر محمد الذى أقصى هو نفسه عن الحكم مرتين قبل أن يسود له الأمر، وقد كانت مصر وقتها غارقة فى الفتن والمؤامرات والتناحر بين أمراء المماليك، ثم أتى وحدثت المعجزة، أما فى حال محمد على كانت مصر غارقة فى الأزمات، وقد خرجت لتوها من الاحتلال الفرنسي، وتنازع عليها الولاة والخلفاء، وحينما أتى محمد على حدثت المعجزة، أما فى حال جمال عبد الناصر فكانت مصر خارجة لتوها من من نير الاستعمار البريطاني، وفى غضون سنوات قليلة صارت مصر قوة تصدر الثورة والحرية والإخاء والمساواة.
لا يخفى على أحد أن الرئيس عبد الفتاح السيسى تسلم حكم مصر فى ظروف هى الأصعب على الإطلاق، فقد يكون سهلا أن يتولى أحد حكم مصر مواجها عدوا خارجيا، أما فى حال الرئيس عبد الفتاح السيسى فقد تسلم حكم مصر فى ظل وجود عدو داخلى وخارجى فى آن واحد، بالإضافة إلى هذا فقد كانت مصر تعانى من فساد واضطراب وعشوائية وانفلات أمنى واجتماعي، فصنع عبد الفتاح السيسى معجزة حقيقية بأن حول الفساد إلى إصلاح، والانفلات إلى انضباط، والعشوائية إلى نظام، والاضطراب إلى استقرار، ولم يتبق لمصر شيئا لتصل إلى مكانتها الطبيعية سوى أن تصدر الاستقرار إلى أشقائها، وأن تحمى أمنها الاستراتيجى بتأمين إخواننا فى العالم العربي، وليس أمامنا الآن سوى أن نتكاتف مع جيشنا العظيم وقائده التاريخى داعين الله أن يسدد خطانا وأن يحمى جيشنا العظيم من الغدر والخيانة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة