يقول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد فى كتابه "عبقرية خالد" شارحا طبيعة ابن الوليد:
لم تكن بخالد ولا بإخوته حاجة على التجارة لكسب العيش وتحصيل المال، إذ كان أبوه على تلك الثروة التى لا مزيد عليها فى البلاد العربية، وكانت ثروته أشبه شىء فى عصرنا هذا بثروة المصارف التى تعمل فى صفقات القروض والربا ومضاربات الأسعار، أما الثمرات والخضر فى مزارعه فلم تكن مما يحمل إلى البلاد القصية للبيع والشراء، وإنما قصارها أن تباع فى الحواضر الحجازية وما قاربها من البوادى القادرة على شيء من الترف والمتعة، ولا سيما فى أيام الأسواق والحجيج، ولهذا فسر بعضهم وصف بنيه ﺑ"الشهود" فيما تقدم من الآيات بأنهم كانوا أبدًا فى صحبته وجواره مفاخرة بهم وتنزيهًا لهم عن الكدح والتصرف فى شئون المعاش، فإن قضيت لأحدهم رحلة أو سياحة، ففى غير هذه الأغراض أو غير حاجة ملحة إلى الاتجار، وإنما هى الدربة والتمرس بالمصاعب والانتفاع بخبرة السياحة وآدابها، وقد ينفقون فى ذلك خير ما يكسبون، كما كان يصنع عمه "زاد الراكب" وأعمامه الآخرون الذين اشتهروا بالأنفة من مجاراة أحد لهم فى الضيافة وبذل العطايا والهبات.
وموضع الترجيح والاستنتاج هنا إنما هو فى إرسال خالد إلى البادية قصدًا لرياضة النفس والجسد على خشونة الأعراب وشدائد الميادين… فهذا، وإن جرت به عادة بعض الأشراف فى حواضر الحجاز، لم يقطع به قول من الأقوال فى سيرة الوليد بن المغيرة وبنيه "الشهود" على احتمال الشهادة للمعنى الذى قدمناه.
ولكن الأمر الموثوق به كل الثقة، الذى لا موضع فيه لترجيح ولا استنتاج ـ أنَّ خالدًا قد نشأ فى الحاضرة أو البادية مستعدًّا للخشونة مستطيعًا لمعيشة الأعراب، مستجيب السليقة والبيئة لما يتكلفه المجاهد فى أوعر القفار وأعنف الحروب، وكانت له ضلاعة العصبيين الأقوياء المعهودين بين رجال السيف، وهى ضلاعة يوشك أن تستمد من حماسة النفس وشهامة القلب أضعاف ما تستمده من العضلات والأوصال.
فلم تَعْفِه العبقرية من ضريبتها التى لا مناص من أدائها، وآية ذلك أنه مات على فراشه فى نحو الخامسة والخمسين، وليست هى بالسن الغالبة فيمن يموتون بداء الشيخوخة من غير علة أخرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة