نواصل مع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889- 1964) قراءة مشروعه الكبير الذى كان له تأثير واضح على الثقافة العربية فى زمنه وما بعده، ونتوقف اليوم مع كتابه "عبد الرحمن الكواكبى".
يقول الكتاب تحت عنوان "فى مصر".
وصل الكواكبى إلى مصر فى منتصف شهر نوفمبر سنة 1898، وتوفى بها فى شهر يونيو سنة 1902 وتخلل هذه الفترة رحلتان، قال صديقه صاحب المنار عنهما: "إنه وجَّه همته أخيرًا إلى التوسع فى معرفة حال المسلمين، ليسعى فى الإصلاح على بصيرة، فبعد اختباره التام لبلاد الدولة العلية، تُركها وعربها وأكرادها وأرمنها ،ثم اختباره لمصر ومعرفة حال السودان منها، ساح منذ سنتين فى سواحل إفريقية الشرقية وسواحل آسيا الغربية، ثم أتم سياحته فى العام الماضى فاختبر بلاد العرب التى كانت موضع أمله أتم الاختبار، فإنه دخلها من سواحل المحيط الهندى، وما زال يوغل فيها حتى دخل فى بلاد سورية، واجتمع بالأمراء وشيوخ القبائل وعرف استعدادهم الحربى والأدبي، وعرف حالة البلاد الزراعية، وعرف كثيرًا فى معادنها حتى إنه استحضر نموذجًا منها.
وقد انتهى فى رحلته الأخيرة إلى كراجى فى موانئ الهند، وسخَّر الله له فى عودته سفينة حربية إيطالية حملته بتوصية من وكيل إيطاليا السياسى فى مسقط، فطافت به فى سواحل بلاد العرب وسواحل إفريقية الشرقية، فتيسر له بذلك اختبار هذه البلاد اختبارًا سبق به الإفرنج، وكان فى نفسه رحلة أخرى يتمم بها اختباره للمسلمين، وهى الرحلة إلى بلاد الغرب، ولكن حالت دونه المنية التى تحول دون كل الأمانى والعزائم".
وقال الأستاذ جورجى زيدان فى كتابه عن مشاهير الشرق فى القرن التاسع عشر عن رحلته: "ومما يذكر له ونأسف لضياع ثماره أنه رحل رحلة لم يسبقه أحد إليها، ويندر أن يستطيعها أحد غيره، وذلك أنه أوغل فى أواسط جزيرة العرب، فأقام على متون الجِمال نيفًا وثلاثين يومًا، فقطع صحراء الدهناء فى اليمن، ولا ندرى ما استطلعه من الآثار التاريخية أو الفوائد الاجتماعية، فعسى أن يكون ذلك محفوظًا فى جملة متخلفاته. وتحول فى هذه الرحلة إلى الهند فشرقى أفريقيا أيضًا، وكان أجلُهُ ينتظره فيها."
والمؤرخ الحلبى الأستاذ الغزي، وهو صديق الكواكبي، يذكر هذه الرحلات فيما كتبه بمجلة الحديث، ويشير إلى إشاعة القائلين إن الخديو عباسًا استدعاه ليقوم بالدعاية لخلافة مصرية، وليسعى لدى الشيوخ وعربان الإمارات فى ذلك، ويُروى أنه جاءه كتاب من قنصل إيطاليا فى حديدة باليمن — وهو من أسرة الصولا بحلب يسمى فرديناند ميخائيل — فذكر فيه أنه اجتمع بالسيد عبد الرحمن الكواكبى أثناء هذا الطواف.١
ولا تنفصل هذه الإشاعة عن إشاعة أخرى فحواها أن الدولة الإيطالية يسَّرت له الرحلة؛ لأنها كانت تطمع فى نجاح المسعى إلى خلع الخلافة التركية منذ توجهت محاولاتها الاستعمارية إلى شواطئ البحر، لعلها تستفيد من مصادقة الخلافة العربية المنتظرة بعد إقامتها على مقربة من مناطق نفوذها.
ولا بد لكل ملتفت إلى هذه الإشاعة أو تلك من تفسير التناقض بين العمل للخديو عباس والعمل للإمامة العربية القرشية، فإن عباسًا لا يبذل المال لمن يسعى فى إحباط مسعاه وإيثار سواه عليه، ولا مصلحة للدولة الإيطالية فى إقامة الخلافة بأرض يحتلها الإنجليز ويسيطرون بها على شواطئ البحر الأحمر من شمالها إلى جنوبها، وليس ارتباط الأسرتين المالكتين فى إيطاليا ومصر كافيًا لحمل الدولة الإيطالية على اتِّباع هذه السياسة، فلا بد إذن من التفسير القاطع للظنون بين قولين لا يتفقان، وإن اتفقا فى شيء واحد؛ وهو حرب الخلافة العثمانية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة