قررت السفيرة الأمريكية فى العراق «ايريل جلاسبى» القيام بعطلتها السنوية العادية يوم 30 يوليو، مثل هذا اليوم، 1990، فأثارت دهشة دبلوماسيين فى بغداد خاصة العرب، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه «حرب الخليج وأوهام القوة والنصر».
كانت أزمة العراق مع الكويت على أشدها، وجاء سفر «جلاسبى» بعد أيام من مقابلتها للرئيس العراقى صدام حسين، حيث اجتمع بها يوم 25 يوليو، وقبل يومين من غزو العراق للكويت «2 أغسطس 1990»، مما طرح سؤالا: هل هى أعطت الضوء الأخضر لصدام فى هذه المقابلة لغزو الكويت؟.
يذكر هيكل، أن بعض زملائها من الدبلوماسيين العرب ترجوها أن تبقى حتى تنفرج الأزمة، وكان تعليقها أنها تحدثت إلى «طارق عزيز» نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، وكان حاضرا لقاءها مع صدام عن نيتها للسفر، ولم يعترض، مما يدل على أن الأزمة فى طريقها إلى الحل مادام الاجتماع الذى تم الاتفاق عليه بين الشيخ سعد العبدالله الصباح ولى العهد ورئيس الوزراء الكويتى، وعزة إبراهيم نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقى على وشك أن ينعقد.. يؤكد هيكل أن هذا لم يكن رأى «جلاسبى» وحدها، وإنما كان رأى «هارولد ووكر» السفير البريطانى فى العراق الذى غادر بغداد فى اليوم التالى.
يقول هيكل، إنه بعد ذلك راجت أقوال أن السفيرة قامت بعملية تضليل متعمدة للرئيس صدام، سواء فيما قالته فى اجتماعها به، أوفى سفرها، غير أن هيكل يرى أن الوثائق المتاحة لا تسمح بتأكيد مثل هذه الأقوال، فلم تكن جلاسبى وحدها هى التى تصورت أن الأزمة فى طريقها للحل، وإنما كان ذلك هو الرأى الذى بدا فى اجتماع على مستوى وكلاء وزارة الخارجية فى واشنطن، شارك فيه عدد من خبراء الشرق الأوسط، وكان رأى بندر بن سلطان سفير السعودية فى واشنطن، وأحد أبناء الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع، ورأى العاهل الأردنى الملك حسين الذى قاله للرئيس «بوش الأب» فى اتصالين يومى 28 و30 يوليو 1990، وكان رهان الجميع على اجتماع الشيخ سعد العبد الله وعزة إبراهيم.
يذكر هيكل، أن لجان الكونجرس المختلفة طلبت الاستماع إلى شهادة «جلاسبى» إلا أن وزارة الخارجية الأمريكية لم تستجب إلا بعد ثلاثة شهور من انتهاء معركة «عاصفة الصحراء» وظهرت عصبية، وتعاطف عدد من أعضاء الكونجرس مع حالتها النفسية أكثر مما تعاطفوا مع كفاءتها المهنية، وحاولت أن تقول إنها حذرت صدام من عواقب أى مغامرة ضد الكويت، وعندما طلب أعضاء اللجنة أن يطلعوا على برقياتها السرية إلى وزارة الخارجية فى تلك الفترة، كان تقديرهم أن فشلها كان كاملا.
يوضح هيكل قصة لقاء صدام مع «جلاسبى»، ويذكر أن صدام لم يكن يقابل السفراء الأجانب فى بغداد كقاعدة عامة، ولم يكن طارق عزيز يقابلهم أيضا، وكان أعلى مستوى مفتوح أمامهم هو نزار حمدون وكيل وزارة الخارجية.. يؤكد هيكل أنه فى 23 يوليو 1990 تلقت «جلاسبى» تعليمات من واشنطن بإبلاغها مسار الأحداث وإيضاحات حول خطاب صدام يوم 17 يوليو، وقابلت «حمدون» يوم 25 يوليو، وأثارت معه ذلك، وكان رده تقليديا.
يكشف هيكل أنه فور عودة «جلاسبى» إلى السفارة بعد المقابلة إذ بنزار يطالبها تليفونيا بالعودة إليه، وحين وصلت وجدته ينتظرها فى سيارة أمام باب وزارة الخارجية ودعاها إلى الركوب بجانبه، وفوجئت بذهاب السيارة إلى أحد بيوت الضيافة الرسمية، وكانت المفاجأة أنها وجدت صدام يدخل القاعة التى تنتظر فيها.
تحدث صدام معها حول رغبته فى علاقات جيدة مع أمريكا، والخطر الإيرانى وأسعار النفط، ومما قاله: «نحن لا نطلب منكم أن تحلوا مشاكلنا، ولكن لا تشجعوا بعض الناس أن يتصرفوا بأكبر من حجومهم».. يؤكد هيكل، أن أخطر ما قالته لصدام فى هذا اللقاء، أن الذى لا يتوفر لدينا رأى حوله هو الخلافات العربية العربية، ومنها مثلا خلافكم الحدودى مع الكويت، وأنا خدمت فى آواخر الستينيات فى سفارة أمريكا بالكويت، وكانت التوجيهات لنا فى تلك الفترة هى أننا لا ينبغى أن نبدى رأيا حول هذه القضية، ولا علاقة لأمريكا بها، ووجه جيمس بيكر وزير الخارجية لأن يعيد التأكيد على هذا التوجيه، ونتمنى أن تتمكنوا من حل هذه المشكلة بأى طريق مناسبة عن طريق «القليبى» «أمين عام الجامعة العربية» أو«الرئيس مبارك».. فهل فهم صدام من ذلك أن أمريكا لن تتدخل وكذلك سفرها فأقدم على قرار الغزو؟