مر نحو 222 عاما على مجىء الحملة الفرنسية إلى مصر فى سنة 1798 بقيادة المغامر الشهير نابليون بونابرت، ورغم مرور هذه السنوات لا يزال البعض غير قادر على الحكم على هذه الحملة، هل أفادت مصر أم أنها كانت مجرد حلقة استعمارية فى تاريخها، ومن الكتب المهمة التى تعرضت للحملة كتاب "الصليبية والجهاد.. حرب الألف سنة بين العالم الإسلامى وعالم الشمال" تأليف وليام بوليك، ترجمة وتحقيق عامر شيخونى وعماد يحيى الفرجي، صدرت ترجمته عن الدار العربية للعلوم ناشرون.
فرنسا فكرت فى احتلال مصر بحثا عن القمح
يقول الكتاب، إنه منذ بدايات القرن الثامن عشر، أدرك مستشارو الملك لويس الرابع عشر أهميةَ مصر للمملكة الفرنسية، وعرفوا أنها كانت مصدراً رئيسياً للقمح أيام الإمبراطورية الرومانية، وكانت فرنسا بحاجةٍ شديدة إليه، وتصوروا أن مصر يمكِن أن تُصبحَ مزرعةَ فرنسا.
كانت مصر على مر الأجيال الممر الحيوى الذى يصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر على طريق التوابل إلى الهند، وكان دورها ذلك قد تراجع عندما دار البرتغاليون حول أفريقيا. استفادوا من الطريق الجديد كثيراً، ولكنه لم يخدم فرنسا بسبب خطورة الأسطول البريطانى. اندفع الفرنسيون عميقاً فى الهند منذ سنة 1668، فى البداية من خلال شركتهم الخاصة بالهند الشرقية، ثم بشكل مباشر فيما بعد، ولكن نجاحهم كان متقطعا فى أفضل التَّقديرات، وكما أدرَكوا فقد كانت العقبة الرئيسية أمامهم هى القوات البحرية البريطانية والهولندية، وربما منحهم طريق مصر فرصة لتَجاوز هذه القوات.
فكروا أنهم إذا أعادوا تأسيس الطريق البَرى وسَيطَروا على جامِعى الضرائب وعلى سرقات المسئولين، فربما حَصَدوا ثمار جهودهم، لم تُطَبَّقْ هذه الاستراتيجية آنذاك، إلا أنّ فكرَتَها ظَلت قائمة.
نابليون يحلم بالخلود مثل الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر
التَقَط نابليون هذه الفكرة بعد الثورة الفرنسية، وكان فى غزو الهند المزيج المناسِب من الرومانسية والاستراتيجية الذى يُناسِب شخصيته، ومهما كانت الأحوال فقد ألهبت مصر خياله، تناسب الاثنان معا، فقد كانت مصر المحطة الضرورية على الطريق إلى الهند، وكان فيها البعد الأسطورى لأن قهرها سيضعه فى مصاف العظماء مثل الاسكندر الكبير وبومبى ويوليوس قيصر ومارك أنتونى، كانت كليوباترا ملكة الرومانسية، والمَسلات المصرية تَظهَر فى كل مكان فى أوروبا، وغُرَف الرَّسم فى قصور الأغنياء تَملؤها نسخ من الآثار المصرية، وفى أحلام اليقظة على الأقل كانت مصر المَوقِع الذى ولِد فيه العالم الكلاسيكى، استَولى هذا الحلم على نابليون لدرجة أنه أبحَر عبر البحر الأبيض المتوسط بينما كان يسامِره ويُعَلمه 150 عالماً من أفضَل وأذكَى الباحثين الفرنسيين، وفى الأول من يوليو 1798 وضع على بر مصر حوالى ثمانية وثلاثين ألف جندى من أسطول ضم 280 سفينة قُرب ساحل الإسكندرية، المدينة العظيمة تاريخياً، والمُتَهالِكة فى حالَتِها العامة آنذاك.
الفرنسيون يصلون الإسكندرية ونابليون يخطب بـ بمبادئ الثورة
ربما دُهِش نابليون والباحثون الذين جَلَبَهم معه لدراسة مصر القديمة من منظر وحالَة مصر الواقعية، بين أطلالِ الماضى التى طَمَرتْها الرمال، بَدَا المصريون فى زمانه أحفاداً فقراءَ لماضيهم العريق، لا بد وأنه قارَنَهم بمَن كان يشبه حالتَهم مِنَ المزارعين المَسحوقين فى فرنسا قَبلَ الثورة، ولذلك كان من بَواكير أعمالِه محاوَلَته بَعثَ وتَنشيطَ المصريين مثلما بَعَثَت الثورةُ الفرنسيين.
كانت الطريقة لتحقيق ذلك هى نَقلُ أفكار الثورة الفرنسية إليهم، إنما فى سياق الإسلام، فقال:
"يا شعبَ مصر، قيلَ لكُم أننى جئتُ لتَدمير دينكم، فلا تُصَدِّقوا ذلك. بل أجيبوا بأننى قد جئتُ لكى أعيدَ لكُم حقوقكم... أدعو الجميع (المصريين) لمَلء جميع المراكِزِ (الحُكومية)، سيَقوم بالحكم أكثركم حكمةً وعلماً وشرفاً وسيكون الناس سعداء".
صَمَّت آذان المصريين أحاديث مماثلة أطلَقَها الحكام المماليك على مدى قرون. لم يَعتَبروا أنفسهم جديرين بمَلء المَناصب الحكومية، فقد كان على المصريين أن يقوموا بالفلاحة والحصاد.
3 طرق لـ نابليون للسيطرة على مصر
اتبع نابليون خلال فترةِ بقائه القصيرة فى مصر ثلاثة أساليب: كان الأول إزالةَ الادعاءات العسكرية، وفى معركة استَمرت ساعة قُربَ الأهرامات فى 21 يوليو دَمرت مدفعيتُه سلاح الفرسان المملوكى بأزيائه التقليدية المزركَشَة، ولم يتمكن الناجون من تلك المعركة من توجيه أى تَهديد حقيقى للجيش الفرنسى، كما لم يتمكن السلطان العثمانى الذى كانت تَتبَع له باشويةُ مصر من فِعلِ أى شيء.
الأسلوبُ الثانى الذى اتَّبَعَهُ نابليون كان محاولةَ كَسبِ قلوبِ وعقولِ المصريين المَهزومين، فَرَضَ على جنوده انضباطاً شديداً فى القاهرة على الأقل، وجَعَلَهم يَدفعون ثَمَن كل شيء أخذوه من السكان، وصَوَّر نفسَه راعياً لمهرجاناتهم واحتفالاتهم الدينية والوطنية، وشَجَّعَ الناس على المطالبة بحقوقهم الإنسانية مثلما علَّمَتهم مبادئ الثورة الفرنسية، وكان يَعنى كذلك فوق كل شيء المشاركةَ فى الحكومة.
أسس نابليون "الدواوين" فى أسرع وقتٍ ممكن بشكل مجالس حُكْم، وكان أغلب الأعضاء من المؤسسات الدينية، قال نابليون إنه يَتَوقَعُ منهم أن يكونوا مِثالاً ونموذجاً للنظام الذى أراد تأسيسه، ولكنه قَيَّدَ صلاحياتهم، وراقَبَ الضباطُ الفرنسيون نشاطَهم، لا يمكن أن نَعرفَ حقيقة مشاعرهم، ولكن يبدو بالنسبة للمصريين أن مهمتهم الحقيقية كانت ضَبطَ النظام، وأن يكونوا واجهةً للسلطات الفرنسية.
نابليون يشعل الفتنة فى مصر
حاوَل نابليون أيضا أن يُقَسِّم مُعارضيه ويُفرِّقهم مثلما يَفعَل المستعمرون عادة، فكان يَعمَل مراراً ضدَّ المماليك، بينما يُعلِن تأييدَه للشعب المصرى، قال إن جَشَع المماليك هو سبب تَخريب مصر التى كانت ذات يوم أرضَ "المُدن العظيمة والقنوات العَريضة والتجارة النامية"، استَغَل ضَعفَ المجتمع المصرى بشكل لطيف وماهر باستِغلاله الفِرقَةَ بين المسلمين والأقباط، ومثلَما فَعَلَ مَن سَبقوه، فقد شَجَّعَ نفوذَ وفَخرَ الأقباط واستَخدَمهم فى جَمعِ الضرائب.
كان الاسلوب الثالث الذى اتَّبَعَهُ نابليون هو إرهابُ المصريين بجيشه، ومهما كان القفاز الذى لبسته الإمبريالية الفرنسية ناعماً، فقد كان يُخفى تَحتَه مَخالِبَ حادَّة، ومثلما كان البريطانيون فى الهند والهولنديون فى إندونيسيا والروس فى القوقاز والصينيون فى آسيا الوسطى، فقد كان الاحتلال الفرنسى لمصر ديكتاتورية عسكرية. لكى يَعمَل الاستعمار وتَنجَح الإمبريالية لا يمكن تَحَمُّلُ أية مقاومة حتى لو كانت هَمسَاً.
أُمِرَ القادةُ المصريون بارتداء الألوان الفرنسية، وكان على السكان أن يَضَعوا شريط القبعة الذى يَرمز للثورة الفرنسية، وعلى الفلاحين "أن يَرفَعوا العلَم الفرنسى وكذلك عَلَم صديقنا السلطان العثماني"، والقرى التى تُقاوم أو تَرفض أن تُقَدِّمَ ما يُطلَبُ مِنَ المؤن تُحرَق، وقد أُحرِقَ منها ما يكفى لترويع الباقين.
لم يَخَدِع المصريون بمظاهر حسن النيَّة الفرنسية، وسرعان ما ظَهَرَت أسباب لقتالهم، فقد هاجَمَت فِرَق من الجنود القرى التى شَكُّوا بوجود نشاط مُعاد لفرنسا فيها، وحَكَموا عليها بعقوبات كان أغلبها يَشمَل حَرْقَ التِّبن المَخزون على أَسْقُفِ منازلها فانهارَتْ وتم نَهبُ الطعام الذى جَمَعَهُ القرويون. كان هذا البرنامج مثالاً مبكراً لقَمعِ المقاومة ولم يكن موجَّهاً للمعاقبة فقط بل لمَنعِ التَّموين عمَّن تَبقَّى من المماليك والعثمانيين وقوات البدو أيضاً. وفى إحدى الهجمات دَمَّرَ الجنودُ الفرنسيون بلدةً بَلَغَ تَعدادُ سكانِها حوالى اثنى عشر ألف شخص.