نواصل مع المفكر العربى عباس محمود العقاد (1889 – 1964) تقديم ما أنتجه من أفكار وما خلفه من كتب، واليوم نتوقف مع كتابه "أفيون الشعوب" فقد كان للفيلسوف والاقتصادى الألمانى "كارل ماركس" عبارة شهيرة تقول "الدين أفيون الشعوب"، حيث لخص فيها رؤيته تجاه الأديان، فهى على حد قوله، تخدر الناس وتلهيهم عن شقاء الحياة واستغلال أصحاب رءوس المال، فتنسيهم المطالبة بحقوقهم، والتفكير فيما يحيط بهم، وذلك طمعًا فى حياة أفضل فى ملكوت السماء أو الجنة، والعقاد له رأى مضادٌّ قوى تجاه هذا الأمر، حيث يرى أن مذهب ماركس "الشيوعية" هو الهُراء لا الأديان، فالدين يولِّد شعورًا بالمسئولية لدى الفرد ويجعله فى حذر من اقتراف الذنوب، أما إنكار الدين فيؤدى لتخدير ضمائر الناس وعدم مبالاتهم.
يقول الكتاب تحت عنوان "المذاهب الهدامة" يقول كارل ماركس وأتباعه: إن الأديان أفيون الشعوب، وإن الناس يقبلون على الدين لأنه يخدرهم ويلهيهم عن شقاء الحياة، وهذا القول الهراء عن الدين آخر وصف يمكن أن ينطبق عليه، وأول وصف ينطبق على مذهب كارل ماركس بجميع معانيه، فالشعور بالمسئولية والمسكرات نقيضان، وما من دين إلا وهو يوقظ فى نفس المتدين شعورًا حاضرًا بالمسئولية فى السر والعلانية، ويجعله على حذرٍ من مقارفة الذنوب بينه وبين ضميره، ويوحى إلى الفقراء والأغنياء على السواء أنهم لن يستحقوا أجر السماء بغير عمل، وغير جزاء، وشتان هذا، وقول القائلين: إن الدين يخدر المرء، كما تخدره المسكرات وعقاقير الأفيون.
إنما المُسكر حقًّا هو مذهب كارل ماركس من جميع نواحيه، لأنه يرفع عن الضمير شعوره بالمسئولية ويغريه بالتطاول والبذاء على ذوى الأقدار والعظماء، إنه يرفع عن الضمير شعوره بالمسئولية؛ لأنه يلقى بالمسئوليات كلها على المجتمع، ويقول ويعيد للعجزة وذوى الجرائم والآثام إنهم ضحاياه المظلومون، وإن التبعة كلها فى عجزهم وإجرامهم واقعة عليه، ويتمم عمل السكر بحذافيره حين يطلق ألسنتهم بالاتهام على كل ذى شأن ينظرون إليه نظرة الحسد والضغينة، ويعز عليهم أن يساووه بالعزيمة والاجتهاد.
ولو أنك نظرت إلى فعل "السكرة" فى المخمور لم تجد لها فى نفسه شهوة تستهويه غير هذا الشعور بإسقاط المسئولية، وهذا التطاول على أعظم عظيم، كما يقول كل سكران غابت به السكرة عن حقائق الأشياء. وما كان للماركسية من سحر يستهوى السفلة إليه غير هذا السحر الذى يبذلون فيه الدراهم ويجدونه فى الماركسية جمًّا بغير ثمن، وعليه المزيد من التغرير بالعقول، وشفاء أدواء الحسد والانتقام.
سكرة رخيصة لا أكثر ولا أقل.
وإنهم ليتحدثون عن "المذهب العلمى" أو يتحدثون عن التفسير "العلمى" للتاريخ، ويكثرون من ذكر العلم والبحث والاستقراء، ثم تنظر فيمن يستهوونهم بهذا الهراء، فلا ترى أحدًا منهم يحفل بالعلم، أو يعنيه أمر المعرفة والاستقراء، ولكنك واجد فيهم، على يقين، من يعميهم الحسد عن كل فضيلة، وتندفع بهم الغرائز كما تندفع السائمة على غير هداية، ومن يعملون ولا يفكرون فى عاقبة ما يعملون.
إن "الماركسية" إذن لهى الحقيقة بما تفتريه من وصف للأديان والمعتقدات، وإنها لأفيون الشعوب بغير مراء، وكلما بحثت عن سبب صالح لشيوع المسكرات فى بيئة من البيئات؛ فاعلم أنه سبب صالح كذلك لشيوع المذاهب الهدامة، ولتفسير هذه الشهوات التى تتلخص فى أول الأعراض التى تبدو على السكران: بإسقاط للتبعة، وخلع للحياء، واستمراء للتطاول والبذاء على كل محسود، وإن لم يكن من الأغنياء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة