نشر تنظيم داعش الإرهابيّ، على إحدى منصاته الإعلاميّة الناطقة باللغة التركيّة مقطعًا مرئيًا بلغت مدته حوالي 4 دقائق، دون ذكر اسم المتحدث فيه، وحرّض التنظيم خلال هذا المقطع المؤيدين له والمتعاطفين معه على التخطيط والقيام بعمليات إرهابيّة فرديّة في بلادهم.
ومن خلال متابعة وقراءة مرصد الأزهر لمكافحة التطرف لما جاء في هذا المقطع رصد الآتي:
أولًا: الجمهور المستهدف من هذا المقطع
لا يستهدف تنظيم داعش الإرهابيّ من هذا المقطع مقاتليه التنظيميين الذين بايعوه وانضموا إليه في أماكن تمركزه الرّئيسة، أو الذين ينتمون إلى إحدى المليشيات التي بايع أفرادها زعيم التنظيم، إنما يستهدف المؤيدين له والمتعاطفين معه، أو ما يمكن أن نطلق عليهم "القوة الناعمة"، التي انخدعت في دعاية "داعش" الضالة والمُضللة، ووقعت في فِخاخ فكره المتطرف. وهؤلاء موجودون بأعدادٍ متفاوتة بين بلدٍ وآخر.
ويرجع السبب في استقطاب هؤلاء إلى قوة الآلة الإعلاميّة لتنظيم داعش الإرهابيّ في وقت من الأوقات، والتي ما زال التنظيم يستخدمها حتى الآن محاولةً منه لإثبات وجوده على الأقل أمام مقاتليه ومؤيديه والمتعاطفين معه، والحقيقة أن بعض هذه "القوة الناعمة" لا تقل خطورة عن القوة العسكريّة والاقتصاديّة للتنظيم. فهم أفراد اقتنعوا بالفكر المتطرف عن طريق الإنترنت، وتشبَّعوا به، وصاروا مستعدين للسفر والانضمام إلى التنظيمات المتطرفة، لكنهم لم يستطيعوا ذلك بسبب الإجراءات الأمنيّة المُشدّدة في بلادهم، وبهذا تحولوا إلى قنابل موقوتة يستطيع التنظيم استخدامها في أيِّ وقت، خصوصًا في أوقات ضعفه وهزيمته.
ومنذ نشأة التنظيم الإرهابيّ وهو يُولي آلته الإعلاميّة أهمية كبرى، ويراهن على استقطاب المؤيدين والمتعاطفين، والاستفادة منهم قدر المستطاع، لذلك أعدَّ لهم خطابًا خاصًا حتى يضمن ولاءهم له. وكان الخطاب الأول الموجه إليهم هو خطاب لـ "أبي محمد العدناني" المتحدث باسم التنظيم (الذي قتل في أغسطس 2016)، حيث شجَّع في تسجيل صوتي له عام 2014 مؤيدي التنظيم على القيام بعملياتٍ ــ يُطلق عليها اليوم عمليات "الذئابٍ المنفردة"ــ دون أخذ إذن من التنظيم، مؤكدًا أن "داعش" سيعترف ويتبنى أيَّ هجوم ولو صغير قام به أحد مؤيديه.
ولقد كان هذا النداء من "العدناني" بمثابة حجر أساس لموجةٍ جديدة من الإرهاب تعتمد اعتمادًا كليًا على الشبكة العنكبوتيّة في التحريض والتخطيط والتنفيذ ليظهر لنا ما يسمى بهجمات "الذئاب المنفردة" التي لعبت دورًا مهمًا في حفظ ماء الوجه لتنظيم "داعش" الإرهابيّ خصوصًا في مراحل ضعفه.
ولقد وصلت هذه الدعاية الدمويّة إلى كتلة جماهيريّة واسعة في العالم عن طريق مواقع التواصل الاجتماعيّ. والشرط الوحيد الذي اشترطه "العدناني" من أجل تبني التنظيم للعمليات التي يقوم بها المؤيدون له هو أن يقسموا يمين الارتباط بالتنظيم بشكل واضح أمام الرأي العام.
ومن ثم وجدنا الشاب "عمر متين" يتصل بالشرطة قبل دقيقة واحدة من هجومه على النادي الليليّ في "أورلاندوا" في الولايات المتحدة، والذي وقع في عام 2016، ويعلن لهم مبايعته لتنظيم "داعش" الإرهابيّ.
ثانيًا: الخطاب الإعلاميّ في المقطع
من يتأمل جيدًا هذا المقطع ونوعية الخطاب فيه يرى أنه خطاب تقليديّ مُدلّس لا يختلف كثيرًا عن خطابات التنظيم القديمة، التي اعتمد فيها على تزييف الحقائق من خلال الصورة والكلمة.
ولقد اعتمد التنظيم الإرهابيّ اعتمادًا كليًّا على "خطاب المظلوميّة في مقابل خطاب العنف"، كما شهدناه سابقًا في مقطع حرق الطيار الأردنيّ "معاذ الكساسبة"، إذ دعا المتحدث مؤيدي التنظيم إلى استخدام "النار" كسلاح غير متوقع ضد مجتمعاتهم، وحرق ما يستطيعون في بلادهم، وذلك بعد مظلومية ادَّعى فيها أن من أسماهم الكفار والمرتدين حرقوا المسلمين ومن ثم وجَبَ الثأر!.
وهنا نجد أن التنظيم الإرهابيّ قد لجأ إلى "المظلوميّة" في البداية حتى يوفر غطاءً لعمل بشع وعنيف قد يستبشعه الناسُ ولا يستوعبونه إذا ذكر مباشرة ودون تمهيد، وهذا يسمى "توظيف المظلوميّة في مقابل العنف". فالتنظيمُ الإرهابيّ تيقّن أن مطالبته لأتباعه باستخدام النار كسلاح شيء وحشيّ ودمويّ لن يقبله أحد؛ لذلك انتهج المظلوميّة وقال إنهم تعرضوا للحرق من قِبل من أسماهم: الكفار والمرتدين، وهذا يدل من جهة أخرى على ثقة التنظيم الإرهابيّ أن ما فعلوه وما يحرضون على فعله لا يُرضي أي إنسانٍ يتحلّى بأقل قدر من الفطرة الإنسانيّة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، ومن ثمَّ يمهدون بالمظلوميّة قبل الحديث عما فعلوه أو ينوون فعله أو يحرضوا على فعله.
أيضًا وظَّف التنظيم في هذا المقطع أسلوب "التحريض في مقابل الدمج"، وهو من أهم أساليب الدعاية الداعشيّة وفقًا للباحث "تشارلي وينتر" (في كتاب داعش والجماعات القتالية لمجموعة من الباحثين) الذي يقول إن البروباجندا التحريضيّة تهدف إلى نقل المؤيدين من التأييد السلبيّ إلى الإيجابيّ، ومن حالة رفض الواقع إلى التمرد عليه. وتركز "بروباجندا التحريض" على الفعل بينما تركز "بروباجندا الدمج" على تهيئة المؤيدين وتطبيعهم على مجموعة الأفكار التي ستطرح مستقبلًا أو مجموعة العمليات التي ستُشنّ لاحقًا كمبرّر لها حين التنفيذ.
وقد اتضح هذا بجلاء في المقطع سالف الذكر في مقدمة المقطع، حيث خاطب المتحدث المؤيدين والمتعاطفين بكلمة "أخي" ساعيًا إلى دمجهم داخل تنظيم داعش الإرهابيّ، رغم أنهم ليسوا أعضاء تنظيميين، ثم تحدث عن حبهم للتنظيم ورغبتهم الجارفة في الانضمام إليه، وحبهم للتضحية في سبيل ذلك. وكذلك رغبتهم في الجهاد وفقًا لمفاهيمهم المغلوطة.
هذا هو الدمج الذي من خلاله جعل المتحدث المتعاطفين جزءً من التنظيم، وبالتالي جعلهم مستعدين لما سيكلفون به من مهام أو أفكار.
ثم بعد ذلك أرجع عدم انضمامهم إلى المسئولين في بلادهم واصفًا إياهم بالكفار والطواغيت، ومحرضًا هؤلاء المتعاطفين إلى تعويض عدم انضمامهم التنظيمي لداعش بالقيام بعمليات إرهابيّة في أماكن تواجدهم، ومشجعًا لهم بالبحث عن حلول تسهل عليهم القيام بعمليات لا البحث عن المشكلات التي تعوقهم عن ذلك، وهذا هو التحريض، وبهذا يكون التنظيم الإرهابيّ قد وظّف "التحريض في مقابل الدمج".
من أجل ذلك يؤكد مرصد الأزهر أهمية التوعية ودورها في مكافحة التطرّف؛ فهي الضامن، والرواية المضادة التي تستطيع مواجهة استراتيجيات الاستقطاب للتنظيمات الإرهابيّة المختلفة؛ لحماية الشباب من الوقوع في براثن هذه التنظيمات المتطرفة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة