نواصل مع المفكر العربى الكبير طه حسين (1889-1973) قراءة مشروعه الفكرى، الذى مثل حلقة مهمة فى تاريخ الثقافة العربية فى القرن العشرين، ولا يزال أثره مستمرا، ونتوقف مع كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلى"، وجاء فى كتاب "فى الشعر الجاهلى" لطه حسين أن الأدب العربى فى الخمسين سنة الأخيرة، قد انحدر وأصابه المسخ والتشويه بسبب مجموعة احتكرت اللغة العربية وآدابها بحكم القانون، وهذا أمر ليس خليقاً بأمة كالأمة المصرية كانت منذ عرفها التاريخ ملجأ الأدب وموئل الحضارة، عصمت الأدب اليونانى من الضياع، وحمت الأدب العربى من سطوة العجمة وبأس الترك والتتر.
وورد بالكتاب: الأدب العربى يجب أن يُعتمد فى دراسته على إتقان اللغات السامية وآدابها. وعلى إتقان اللغتين اليونانية واللاتينية وآدابهما. بالإضافة إلى تفهم التوراة والإنجيل والقرآن، إذ كيف السبيل إلى دراسة الأدب العربى إذا لم نقم بدراسة هذه الموضوعات كلها. فهل نظن أن من شيوخ الأدب فى مصر من قرأ إلياذة هوميروس وإنيادة فرجيل؟ لقد كان الجاحظ أديباً لأنه كان مثقفاً قبل أن يكون لغوياً أو بيانياً أو كاتباً. وكان يتقن فلسفة اليونان وعلومهم وسياسة الفرس وحكمة الهنود. وكان على علم بالتاريخ وتقويم البلدان. ولو عاش الجاحظ فى هذا العصر لحاول إتقان الفلسفة الألمانية والفرنسية. وهذا ما يفعله بالضبط أستاذ الأدب الإنجليزى أو الفرنسى اليوم. يكفى أن تنظر فى أدب أبى العلاء المعرى لترى أننا فى حاجة إلى علوم الدين الإسلامى كلها. وإلى النصرانية واليهودية ومذاهب الهند فى الديانات لكى نفهم شعر أبى العلاء. فالأدب لا يمكن أن يثمر إلا إذا اعتمد على علوم تعينه، وعلى ثقافة تغنيه.
وقال طه حسين فى الكتاب: اللغة العربية لغة مقدسة لأنها لغة القرآن الكريم والدين. ولأنها مقدسة فهى لا تخضع للبحث العلمى الصحيح الذى قد يستلزم النقد والتكذيب والإنكار والشك على أقل تقدير. أما طه حسين فيريد أن يكون تدريس اللغة العربية وآدابها شأن العلوم التى ظفرت بحريتها من قبل. فدراسة الأدب العربى اليوم تقتصر على مدح أهل السنة وذم المعتزلة والشيعة والخوارج والكفار. وليس فى ذلك شأن ولا منفعة ولا غاية علمية بالنسبة لأدب اللغة العربية. فالأدب العربى شيء والتبشير بالإسلام شيء آخر. فمثلاً إذا أمرت السلطة السياسية الكتاب والمؤرخين أن تكون كتاباتهم ودراساتهم مقصورة على تأييد السلطة السياسية، أليس الكتاب جميعاً- إن كانوا خليقين بهذا الاسم- يؤثرون أن يبيعوا الفول والكراث على أن يكونوا أدوات فى أيدى الساسة، ويفسدون بهم العلم والأخلاق.
وأضاف: "لقد أغلق أنصار القديم على أنفسهم فى الأدب باب الاجتهاد، كما أغلقه الفقهاء فى الفقه، والمتكلمون فى الكلام. فما زال العرب ينقسمون إلى بائدة وباقية، وإلى عاربة ومستعربة. وما زال أولئك من جرهم، وهؤلاء من ولد إسماعيل. وما زال إمرؤ القيس صاحبَ قصيدة "قفا نبك..."، وطرفة صاحبَ "لخولة أطلال..."، وعمرُ بن كلثوم "ألا هبى..."، لكننى -والكلام هنا لطه حسين- شككت فى قيمة الأدب الجاهلى، وألححت فى الشك، وانتهيت إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً، ليست من الجاهلية فى شيء، إنما هى منحولة بعد ظهور الإسلام".
وقد أثار هذا الكلام وغيره ضجة كبرى، كان على أثرها أن واجه الدكتور طه حسين محاكمة خرج منها بريئا، لكنه قام بتعديل في الكتاب، فجعل عنوانه "في الأدب الجاهلى" وحذف منه بعض المثير من القول.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة