تدخل مفاوضات بريطانيا والاتحاد الأوروبى مرحلة حاسمة خلال الأيام القليلة المقبلة حيث تعقد الأسبوع المقبل جولة جديدة من المفاوضات تعد فاصلة لحسم مستقبل العلاقات قبل انتهاء الفترة الانتقالية بنهاية العام الجاري، إما بالتوصل إلى اتفاق تجاري بين الطرفين أو وقوع "بريكست" بدون اتفاق.
ومع اقتراب هذه الجولة الحاسمة، تخيم أجواء من التشاؤم على المشهد التفاوضي بين لندن وبروكسل حيث لم ينجح الطرفان على مدار الأشهر الماضية، وبالتحديد منذ خروج بريطانيا رسميا من الكتلة الأوروبية في 31 يناير الماضي، من إحراز أي تقدم ملموس بشأن القضايا العالقة بينهما، حتى أن ألمانيا، التي تتولى الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي، ألغت مناقشة بند "خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي" من جدول أعمال اجتماع دبلوماسي رفيع المستوى مقرر عقده الأسبوع المقبل، وذلك بسبب عدم إحراز أي تقدم يذكر في مسار المفاوضات.
وبعد انتهاء الجولة السابعة من المفاوضات في أغسطس الجاري، تبادلت كل من لندن وبروكسل الاتهامات بشأن مسؤولية عدم تحقيق تقدم في المفاوضات، وعبّر كبير المفاوضين الأوروبيين ميشال بارنييه عن "خيبته وقلقه" مستبعدا التوصل إلى اتفاق في هذه المرحلة فيما اتهم نظيره البريطاني، ديفيد فروست، الاتحاد الأوروبي بجعل المفاوضات "صعبة بلا مبرر".
وتتركز القضايا الخلافية بين الطرفين بالأساس على شروط المنافسة والمتعلقة بالمعايير الاجتماعية والبيئية، وقواعد المساعدات الحكومية، فضلا عن الخلاف حول ملف الصيد والذي تتطلع فيه بروكسل إلى السماح للأوروبيين بالصيد بحرية كاملة في السواحل البريطانية، بينما ترغب لندن في استعادة سيادتها على مياهها الإقليمية.
ووفقا للأوروبيين، فإن الحكومة البريطانية لا تريد التفاوض الحقيقي، إنما فقط التصلب في المطالب بغرض "تضييع الوقت"، حيث أفاد مسئولون أوروبيون أن بريطانيا مستعدة للمخاطرة بالانسحاب من دون اتفاق مع انتهاء الفترة الانتقالية وستحاول إلقاء اللوم على بروكسل.
في المقابل ترد الحكومة البريطانية بأنها تريد حل المشكلات العالقة، غير أن المفاوضين الأوروبيين يصرون على حل كل المشكلات بالتوازي، ويضعون مسألة حقوق الصيد وتطبيق المعايير واللوائح الأوروبية شرطاً لدخول بريطانيا السوق المشتركة.
في هذا السياق يؤكد المتخصصون في الشئون الأوروبية أنه في حالة عدم حدوث أي تقدم في في الجولة التالية من المفاوضات فإنه لن يكون ممكناً التوصل إلى اتفاق، خاصة أنه لاتزال هناك تفاصيل الاتفاق القانونية التي قد تصل إلى 400 صفحة، وتحتاج إلى مصادقة من البرلمانين الأوروبي والبريطاني قبل أن تدخل حيز النفاذ، وهو مايعني بدوره ضرورة التوصل إلى اتفاق خلال الشهر القادم بحد أقصى.
في ضوء هذا المشهد الملبد بالغيوم، يعتقد المراقبون أنه في حالة عدم التوصل إلى اتفاق قبل انتهاء الفترة الانتقالية فإن ذلك لن يصب في مصلحة الطرفين ولكنه سيضر أكثر بالجانب البريطاني لاسيما في ضوء الأوضاع المتردية التي شهدها اقتصاد البلاد في أعقاب جائحة كورونا.
فمن ناحية، وقوع بريكست بلا اتفاق يعني إخضاع تعاملات بريطانيا التجارية مع الاتحاد الأوروبي لشروط "منظّمة التجارة العالمية" وهو ما يعني فرض رسوم جمركية مرتفعة وتشديد الرقابة الجمركية في العلاقات التجارية بين الطرفين، وسيؤدي بدوره إلى تحميل أعباء على الشركات البريطانية ذات الصادرات الكبيرة إلى أوروبا والتي كانت تستفيد من المميزات التي توفرها السوق الأوروبية المشتركة، مما قد يؤدي إلى مزيد من الإلغاءات لخطط الاستثمار ويخاطر بانتكاسة في الركود للاقتصاد البريطاني.
ويتوقع المراقبون تعرض الاقتصاد البريطاني لضربة بعيدة المدى بسبب مغادرة الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق تجاري، حيث سينخفض الناتج المحلي الإجمالي بين 5 و10%، وسيؤدي هذا الوضع على المدى الطويل إلى تقليص حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني بنسبة 3.5 إلى 8.7 %، وذلك بالمقارنة مع الوضع الراهن داخل الاتحاد الأوروبي، وإذا اضفنا إلى ذلك الأضرار الاقتصادية المترتبة على جائحة كورونا، فإن الأوضاع ستتفاقم بدرجة كبيرة لاسيما مع توقعات موجة جديدة من الفيروس في فصل الشتاء.
من ناحية أخرى كانت بريطانيا تعول بدرجة كبيرة على التوصل إلى اتفاق تجاري قريب مع الولايات المتحدة، وإظهاره باعتباره واحداً من المكاسب الكبرى الناجمة عن بريكست. ورغم سير المفاوضات بينهما على نحو جيد إلا أنه لايظهر في الأفق إمكانية التوصل إلى اتفاق قريب قبل الانتخابات الرئاسية الاميركية المقررة في نوفمبر المقبل والتي ستؤخر بدورها مصادقة الكونغرس على أي اتفاق محتمل، وهو ما يشكل تحديا صعبا أمام الحكومة البريطانية.
من ناحية ثالثة، رصدت بعض الدراسات الأوروبية مؤخرا ظاهرة جديدة غير مسبوقة تمثلت في قيام عدد كبير من البريطانيين بالتقدم للحصول على جنسيات أوروبية مختلفة، تضمن لهم البقاء مواطنين داخل التكتل الأوروبي، حتى وإن كلفهم ذلك التخلي عن جنسيتهم البريطانية. وتوضح هذه الدراسات أن السبب وراء هذه الظاهرة هو حالة انعدام اليقين والخوف من المستقبل التي سادت بين المواطنين في أعقاب بريكست، وعدم ثقة البريطانين في أن اقتصاد بلادهم قادر على تحمل تبعات الأزمة الاقتصادية التي سيخلفها الخروج من التكتل الأوروبي، وبناء عليه فهم يسعون لتطوير حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والتخفيف من النتائج السلبية للبريكست، وهو ما يعكس حالة الذعر التي تسود داخل المجتمع البريطاني خاصة في ظل تزايد فرص سيناريو "بريكست دون اتفاق".
في ضوء ماسبق، يتوقع فريق واسع من المراقبين أنه بالرغم من أجواء اليأس والتشاؤم التي تخيم على المشهد التفاوضي ورغم هوة الخلافات بين الطرفين الأوروبي والبريطاني إلا أن حافز التوصّل إلى اتفاق لايزال قويّاً لاسيما بالنسبة للجانب البريطاني الذي من المرجح-وفقا للمراقبين- أن يظهر مرونة أكثر خلال المرحلة المقبلة للوصول إلى حلول توافقية مع الجانب الأوروبي خاصة في ظل تفاقم التداعيات الاقتصادية السلبية لوباء كورونا والافتقار إلى البدائل التجارية الأخرى.