"أعطتنى حياتى فى الوظيفة مادة إنسانية عظيمة، وأمدتنى بنماذج بشرية لها أكثر من أثر فى كتاباتى، ولكن الوظيفة نفسها كنظام حياة وطريقة لكسب الرزق، لها أثر ضار أو يبدو كذلك، فلقد أخذت الوظيفة نصف يومى ولمدة 37 سنة، وفى هذا ظلم كبير، ولكن الوظيفة فى الوقت نفسه علمتنى النظام، والحرص على أن أستغل بقية يومى فى العمل الأدبى قراءة وكتابة، وجلعتنى أقضى كل دقيقة فى حياتى بطريقة منظمة، وهذا فى تصورى هو أثر إيجابى للوظيفة فى ظل المجتمع الذى نعيش فيه".. هكذا تحدث الأديب العالمى الراحل "نجيب محفوظ" عن حياته الوظيفية التى استمرت لسنوات عدة من موظف بالأوقاف إلى رقيب على المصنفات الفنية ختامًا برئيس لجهاز السينما قبل خروجه إلى المعاش.
تدرج الأديب العالمى الراحل نجيب محفوظ، الذى تحل اليوم ذكرى رحيله الرابعة عشرة إذ توفى فى 30 أغسطس سنة 2006، عن عمر يناهز 94 عاما، فى العديد من الوظائف الإدارية سواء كانت فى وزارة الأوقاف أو مجلس النواب وإدارة الجامعة، وكان من حظه أن التقى عائلات قديمة فى وزارة الأوقاف تبحث عن مستحقاتها، وعرف كيف تدار الصراعات الحزبية حسبما شاهدها أمام عينه فى مجلس النواب، كثير من هؤلاء كانوا أبطالاً لروايته الأدبية.
وبحسب كتاب "نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء على أدبه وحياته" للكاتب والناقد الراحل رجاء النقاش، يقول "محفوظ"، كنت أرد على مشاكل الناس التى تصل إلى وزير الأوقاف مباشرة أو عن طريق النواب، ولاحظت كم أن الحزبية والمصالح الشخصية تتدخل بشكل سافر يضر بمصالح الناس، أما فى إدارة الجامعة فقد اصطدمت بنماذج بشرية أخرى، فبطل "القاهرة الجديدة" عرفته وهو طالب وتتبعته إلى أن حصل على وظيفة، ولكن "سقوطه" بدأ وهو طالب، وبطل "خان الخليلى" كان زميلاً لنا فى إدارة الجامعة اسمه أحمد عاكف، وقد جاء يشكرنى بعد قراءته للرواية على محبتى له، للدرجة التى جعلتنى أطلق اسمه على بطل الرواية.
وأضاف محفوظ عن فترة وظيفته، "كما اصطدمت فى الوظيفة بأشياء كثيرة مثل الشذوذ الجنسى بين الموظفين، وهو ما أتاح للبعض الحصول على وظائف كبيرة لا لشىء إلا بسبب ممارسته للشذوذ مع كبار الموظفين، وهو ما عطل ترقية محفوظ نفسه إلى الدرجة الرابعة رغم تبليغه بالأمر رسميا من قبل مديره ويقول ساخر: "وكان الشاذون جنسيًا فى نعيم حقيقى، وكانوا يجدون دائمًا من يساندهم".
فى عام 1959 تغيرت ملامح حياة كاتبنا الراحل، فبعد نجاح كبير فى كتابة السيناريو لعدد من أنجح الأفلام السينمائية مثل "ريا وسكينة"، الوحش وإحنا التلامذة" أثناء فترة عمله كموظف أو سكرتير لمكتب على عبد الرازق، تم ترشيحه لشغل منصب مدير عام الرقابة على المصنفات الفنية وذلك بناء على ترشيح من الدكتور ثروت عكاشة آنذاك، وكان قبلها انتدب "محفوظ" مديرًا لمكتب يحيى حقى مدير مصلحة الفنون فى ذلك التوقيت.
ويقول محفوظ عن دور الرقابة "إن الرقابة كما فهمتها ليست فنية ولا تتعرض للفن أو قيمته، ووظيفتها ببساطة هى أن تحمى سياسة الدولة العليا وتمنع الدخول فى مشاكل دينية قد تؤدى إلى الفتنة".
أما عن أبرز المواقف التى واجهت صاحب "نوبل" أثناء عمله بالرقابة، فكانت من بينها أنه فوجئ بمراقب الأغانى يمنع أغنية "يا مصطفى" والتى تقول كلماتها "يا مصطفى يا مصطفى/ أنا بحبك يا مصطفى/ سبع سنين فى العطارين".
ويأتى سبب الرفض كما ذكره محفوظ فى حواره مع الناقد الراحل "رجاء النقاش" أن المراقب قال أن مؤلف الأغنية يقصد مصطفى النحاس وأن "سبع سنين" الواردة فى الأغنية تشير إلى مرور سبع سنوات على الثورة، وهنا علق محفوظ موضحًا: "إلى هذا الحد من ضيق الأفق كانت العقليات التى تعمل فى جهاز الرقابة".
أما التى كانت بتدخل شخصى من "محفوظ" فاختلافه مع مدير الرقابة على الأفلام محمد على ناصف لأنه سمح بعرض فيلم سينمائى أجنبى يسيء لليابان، وكان احتاجاجه بحجة أن اليابان ساندت مصر ضد الولايات المتحدة وتعتبر دولة فى موقع الرضا والصداقة، وبالفعل تم وقف عرض الفيلم بعد احتجاج السفير اليابانى لـ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والذى أمر بوقف عرضه مباشرة.
وفى موقف آخر قام "محفوظ" بحذف بعض الأغانى للمطربة صباح من ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب رأى أنها تؤديها بطريقة مثيرة.
استمر كاتبنا الراحل مديرًا عامًا للرقابة على المصنفات الفنية طيلة عام ونصف إلى أن تولى منصب رئيس جهاز السينما، والذى استمر به حتى خروجه إلى لمعاش عام 1971.
ويقول "محفوظ": ظللت فى موقعى كرقيب لمدة عام ونصف تقريبًا، وجاء خروجى منه كنتيجة أزمة رواية "أولاد حارتنا"، وتابع "ففى مجلس الوزراء شن الدكتور حسن عباس حلمى وزير الاقتصاد وقتها حملة على الدكتور ثروت عكاشة كانت وجهة نظر الأول أن "عكاشة" أسند مهمة الرقابة لرجل "متهم فى عقيدته الدينية".
وهو الأمر الذى جعل الدكتور ثروث عكاشة بطلب من الأديب الراحل ترك الرقابة والانتقال إلى رئاسة دعم السينما والتى كان تحت الإنشاء حينها.
طيلة 37 عامًا، ظل نجيب محفوظ داخل أررقة أجهزة الدولة، انتهت بخروجه إلى المعاش، وعن إحساسه فى ذلك الوقت يقول فى محفوظ فى كتاب "أنا نجيب محفوظ: سيرة حياة كاملة" للكاتب إبراهيم عبد العزيز: إن إحساسى بالمعاش، كان الترحيب والتفاؤل والسعادة، وقد يبدو غريبًا فالموظف المحال على المعاش تعتريه كأبة من نوع خاص، لكنى أحس أن المعاش استمرار لحياتى العملية، بعد أن أتمتع بميزتين، أولاهما الحرية وثانيها التوحد للفن، أنا متلهف على التحلل من ذلك النظام الرهيب القاسى على فرضته على نفسى وأنا موظف، بل إننى لم أرتاح لفكرة مد الخدمة".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة