نبدأ اليوم مع المفكر العربى الكبير الدكتور طه حسين (1889- 1973) قراءة مشروعه الفكرى الذى كان له أثر كبير على الثقافة المصرية والعربية فى القرن العشرين وحتى الآن، ونتوقف اليوم مع كتابه المهم الذى يحكى سيرته "الأيام".
ونقرأ معا جزءا من الكتاب:
لا يذكرُ لهذا اليوم اسمًا، ولا يستطيع أن يَضعَه حيثُ وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتًا بعينه، وإنما يُقرِّب ذلك تقريبًا.
وأكبر ظنِّه أنَّ هذا الوقت كان يقع من ذلك اليوم فى فجره أو فى عِشائه، ويُرجِّح ذلك لأنه يذكر أنَّ وجهه تَلقَّى فى ذلك الوقت هواءً فيه شيءٌ من البرد الخفيف الذى لم تذهب به حرارة الشمس، ويُرجِّح ذلك لأنه على جهله حقيقةَ النور والظُّلمة، يكاد يذكُر أنه تلقَّى حين خرج من البيت نورًا هادئًا خفيفًا لطيفًا كأنَّ الظلمة تَغشَى بعض حواشيه، ثم يُرجَّح ذلك لأنه يكاد يذكر أنه حين تَلَقَّى هذا الهواء وهذا الضياء لم يُؤْنِس من حولِه حركةَ يَقَظةٍ قويةٍ، وإنما آنس حركةً مُستيقظة من نومٍ أو مُقبلةً عليه، وإذا كان قد بقى له من هذا الوقت ذِكرى واضحةٌ بينةٌ لا سبيل إلى الشك فيها، فإنما هى ذكرى هذا السِّياج الذى كان يقوم أمامه من القصب، والذى لم يكن بينه وبين باب الدار إلا خُطواتٌ قِصارٌ. هو يذكر هذا السياج كأنه رآه أمس، يذكر أنَّ قصب هذا السياج كان أطول من قامته، فكان من العسير عليه أن يتخطَّاه إلى ما وراءه، ويذكر أنَّ قصب هذا السياج كان مقتربًا كأنما كان متلاصقًا، فلم يكن يستطيع أن ينسلّ فى ثناياه، ويذكر أن قصبَ هذا السياج كان يمتد من شِماله إلى حيث لا يعلم له نهايةً، وكان يمتد عن يمينه إلى آخر الدنيا من هذه الناحية، وكان آخر الدنيا من هذه الناحية قريبًا؛ فقد كانت تنتهى إلى قناةٍ عَرَفها حين تَقَدَّمت به السن، وكان لها فى حياته — أو قُل فى خياله — تأثيرٌ عظيم.
يذكر هذا كله، ويذكر أنه كان يحسد الأرانب التى كانت تخرج من الدار كما يخرُج منها، وتتخطَّى السياج وَثْبًا من فوقه، أو انسيابًا بين قَصَبه، إلى حيثُ تَقرِضُ ما كان وراءه من نَبْتٍ أخضر، يَذْكُر منه الكُرُنْبَ خاصَّةً.
ثم يذكر أنه كان يحب الخروج من الدار إذا غَرَبَت الشمسُ وتعشَّى الناسُ، فيعتمدُ على قصب هذا السِّياج مفكِّرًا مُغرقًا فى التفكير، حتى يَرُدَّه إلى ما حوله صوت الشاعر قد جلس على مسافةٍ من شماله، والتفَّ حوله الناس وأخذ يُنشدهم فى نَغْمةٍ عذْبةٍ غريبةٍ أخبارَ أبى زيد وخليفةَ ديابٍ، وهم سكوتٌ إلا حين يَسْتخفُّهم الطَّرب أو تَستفزُّهم الشهوة، فيستعيدون ويتمارَوْن ويختصمون، ويسكت الشاعر حتى يفرُغوا من لغَطهم بعد وقتٍ قصيرٍ أو طويل، ثم يستأنف إنشادَه العذْبَ بنغْمته التى لا تكاد تتغيَّر.
ثم يذكر أنه لا يخرج ليلةً إلى موقفه من السياج إلَّا وفى نفسه حسرةٌ لاذعةٌ، لأنه كان يُقدِّر أن سيقطعُ عليه استماعه لنشيد الشاعر حين تدعوه أخته إلى الدخول فيأبَى، فتخرج فَتشُدُّه من ثوبه فيمتنع عليها، فتحمِله بين ذِراعيها كأنه الثُمامة، وتَعدو به إلى حيث تُنيمه على الأرض وتضع رأسه على فَخِذِ أمِّه، ثم تَعمِد هذه إلى عينيه المظلمتين فتفتحهما واحدةً بعد الأخرى، وتقطُر فيهما سائلًا يُؤذيه ولا يُجدِى عليه خيرًا، وهو يألمُ ولكنه لا يشكو ولا يبكي؛ لأنه كان يكره أن يكون كأخته الصغيرة بكَّاءً شكَّاءً.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة