رصدت دراسة حديثة صادرة عن المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية تفاصيل الاختراقات التركية للدول الإفريقية، حيث اشارت إلى أن هناك مجموعة من الأبعاد التى تعبر عن توجهات تركيا فى القارة الأفريقية، والتى تمثل حافزًا للسياسة الخارجية التركية وتعزيزًا لمصالحها من هذه الأبعاد.
وحددت الدراسة مجموعة من المحاور التى تتحرك من خلالها تركيا داخل القارة السوداء، حيث حددتها بـ4 محاور، وهى القوة الناعمة والعلاقات الأمنية والعسكرية والبعد السياسى والبعد الاقتصادى وعرضتها على النحو التالى...
1- القوة الناعمة: تعمل تركيا على توظيف تغلغلها الناعم فى القارة بادعائها أنها "شريك الخير"، فقد ذهب أردوغان أثناء زيارته للجابون في 2013 إلى أن "البعض جاء لإفريقيا من أجل الذهب، لكن تركيا أتت كي تضمد الجراح، وبناء شراكة قوية ومستدامة قائمة على المنافع المتبادلة"، وتعتمد تركيا على عنصر الدين في سياستها الخارجية مهما نفت ذلك رسميًّا، وتحاول استغلال السكان المسلمين في دول القارة للترويج لسياستها. وكانت البداية مع استضافة أنقرة في 2006 مؤتمر رجال الدين الأفارقة الذي عبّرت فيه عن تغيير الرؤية التركية تجاه القارة لتكون ذات طابع دينى.
بجانب ذلك، تعمل تركيا على نشر اللغة التركية، وتوفر فرص عمل للمتحدثين باللغة التركية، بالإضافة لعقد المؤتمرات السنوية المشتركة بين الصحفيين من الجانبين، وإطلاق المواقع الإلكترونية للمساعدة على توصيل الرسائل التركية للمواطنين الأفارقة. وتقدم تركيا أيضًا منحًا دراسية للطلاب الأفارقة يصل عددها سنويًّا إلى ألف منحة، وهناك ما يزيد على 13 ألف طالب أفريقى يدرسون بالجامعات التركية. بالإضافة لفتح مراكز بحثية بالجامعات التركية للاهتمام بالشأن الإفريقى، مثل: مركز الدراسات الإفريقية بجامعة أنقرة، ومركز البحوث الجامعية لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا بجامعة قادر هاس، بالإضافة إلى تقديم الجامعات التركية برامج دراسات عليا فى الدراسات الإفريقية.
وأضاف إلى ذلك تقديم المساعدات لدول إفريقيا جنوب الصحراء، والتي وصلت قيمتها إلى 52 مليون دولار في 2008، ووصل عدد المشاريع الإنمائية إلى 113 مشروعًا فى 37 دولة إفريقية عام 2011. كما تلقت القارة 33.7% من إجمالى مساعدات وكالة التنمية والتعاون الدولى التركية، وتتركز هذه المساعدات في البنية التحتية وقطاعات الصحة والتعليم والزراعة والمياه والصرف الصحي. كما شملت هذه المساعدات المجتمع المدني، حيث لعبت العديد من المنظمات التركية دورًا بارزًا في هذا المجال، مثل “مؤسسة الإغاثة الإنسانية” التي بدأت عملها منذ 1996، وتتواجد في 35 دولة إفريقية، وحركة كولن قبل أن تتوتر علاقاتها مع نظام أردوغان.
وذكرت تقارير أن أردوغان يعمل من خلال "مؤسسة الهدى" التابعة لحكومته على استغلال الأعمال الخيرية المقدمة لدول القارة لتمويل الأنشطة التخريبية، وهو ما كشفت عنه مكالمة مسربة بين أردوغان ومصطفى طوباش، رجل الأعمال المقرب له وشريك ياسين القاضى المتهم من وزارة الخزانة الأمريكية بتمويل أنشطة تنظيم القاعدة.
2- العلاقات الأمنية والعسكرية: عملت تركيا على تحويل مسار سياستها الخارجية بالقارة من القوة الناعمة إلى الخشنة، إذ يستهدف التوسع التركى إيجاد موطئ قدم فى نطاق يمثل امتدادًا حيويًّا للأمن الإقليمى المصرى كما سبق الذكر، خاصة بعد استعادة القاهرة لمكانتها فى القارة.
فقد سبق أن وقّعت تركيا اتفاقًا أمنيًّا لتطوير وتحديث قطاع الأمن فى كينيا وتنزانيا، ودربت قوات أوغندية، وفى أوائل عام 2020، زار أردوغان الجزائر ضمن جولة إفريقية مع اشتداد التوتر حول الدور التركى فى ليبيا، فى محاولة لحشد دعم إقليمى لتدخلها فى الأزمة، خاصة أن الجزائر من المُعارضين للتدخل الفرنسى عبر مجموعة الساحل الخمس، لكن لا يزال يؤخذ فى الاعتبار تصويت تركيا داخل الأمم المتحدة فى عام 1956 ضد استقلال الجزائر.
في هذا الإطار، نشير أيضًا إلى الاتفاقية التركية - السودانية، لتطوير وإعادة ترميم جزيرة سواكن السودانية، والتي أثارت جدلًا واسعًا حول الأهداف التركية الحقيقية، وسعيها إلى إقامة قواعد عسكرية للتدريب في الجزيرة، خاصة بعد توقيع اتفاقية تعاون وتدريب عسكري مشترك بين البلدين في أكتوبر 2019. لكن هذه الاتفاقية شهدت معارضة بعد إسقاط نظام البشير. كذلك بحثت تركيا إقامة قاعدة في جيبوتي بجانب تلك الموجودة في الصومال التي تعد أكبر قاعدة عسكرية تركية خارج البلاد.
3- البُعد السياسي: افتتحت أنقرة عددًا من السفارات في الدول الإفريقية تنفيذًا لبرنامجها بتأسيس بعثات دبلوماسية لها في القارة، إذ تمتلك تواجدًا دبلوماسيًا في أكثر من 42 بلدًا إفريقيًا، وتجمعها علاقات تجارية مع 26 دولة إفريقية. أضف إلى ذلك تزايد عدد الزيارات الرسمية المتبادلة خلال السنوات الأخيرة، كان آخرها جولة أردوغان في عدد من الدول الإفريقية في أوائل العام الجاري 2020، شملت الجزائر والسنغال وجامبيا، بهدف مناقشة الوضع في ليبيا والشراكات الاقتصادية التركية مع هذه الدول.
4- البعد الاقتصادى: تعتمد تركيا في هذا المجال على مجموعة من شركاتها، مثل “أرتشاليك للاستثمار”، و”أورتورا” المتخصصة في الأثاث المنزلي، و”أوبيت” للبترول، و”تيب” للاستثمار والتطوير العقاري. ويعمل الاتحاد التركي لرجال الأعمال والصناعيين على تعزيز التجارة التركية بالقارة، بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات في مجالات الطاقة والاستثمار. وقد تم ربط الخطوط الجوية التركية لتصل إلى 54 وجهة بالقارة.
وفي هذا الإطار، تأتي أيضًا المباحثات التركية مع الصومال للتنقيب عن النفط في المياه الإقليمية الصومالية، وتوقيع اتفاقية بحرية مع حكومة السراج الليبية للتنقيب عن الغاز في البحر المتوسط، ذلك بالإضافة لاتفاقيات في مجال الطاقة مع العديد من الدول مثل الكاميرون، وكينيا، والنيجر، والسودان، وأنجولا، ونيجيريا، وجنوب إفريقيا، وبوتسوانا، والجابون، وغينيا الاستوائية، وأوغندا، وتنزانيا، وموريتانيا، وغانا، وناميبيا، وموزمبيق، وزامبيا.
وقد شهدت الاستثمارات التركية في إفريقيا ارتفاعًا ملحوظًا، إذ ارتفعت من حوالي 374 مليون دولار عام 2002 إلى 6 مليارات دولار فى عام 2014. وتوجد حوالي 350 شركة في إثيوبيا يعمل بها أكثر من 400 ألف عامل إثيوبى، وحوالى 40 شركة في نيجيريا. وقد انضمت تركيا إلى بنك التنمية الإفريقي عام 2013 لتصبح الدولة العضو رقم 78. وأوضحت وزارة الخارجية التركية أنه يتم تقديم مساهمة مالية سنوية قدرها مليون دولار أمريكى للاتحاد الإفريقي منذ عام 2009.
كما حققت الصادرات التركية للقارة الإفريقية نموًّا ملحوظًا، خاصة إفريقيا جنوب الصحراء، لتمثل نحو 2.7% من إجمالي الصادرات التركية في عام 2013، إذ ارتفع حجم الصادرات التركية للقارة من 1.7 مليار دولار في 2002 إلى حوالي 14.1 مليار دولار في 2013. بالإضافة إلى اتفاقيات التجارة الحرة مع خمس دول إفريقية، واتفاقيات مع 13 دولة لمنع الازدواج الضريبي. وتشمل الصادرات التركية للقارة السلع المصنعة ومنتجات الحديد والصلب والمنتجات الغذائية والاستهلاكية والمنسوجات والأسمنت. وتحصل تركيا من القارة على المواد الخام مثل القطن والأحجار الكريمة والمعادن والأخشاب والجلود.
لكن رغم قدرة تركيا على تحقيق قدر من التغلغل في إفريقيا، لا يزال هناك عدد من التحديات التي تواجه السياسة التركية في القارة. أبرز هذه التحديات أن التوغل التركي في إفريقيا يتماس مع نقاط نفوذ وحضور القوى الدولية، مثل فرنسا التي لها حضور قوي في الدول الفرانكفونية. كما يبرز تحدي قدرة المنظمات التابعة لحركة كولن على استغلال الحضور التركي للتغلغل في إفريقيا، بسبب عدم قدرة المجتمعات الإفريقية على التمييز بين منظمات المجتمع المدني التركي التابعة لكولن وتلك التابعة للحكومة وطبيعة العلاقة بينهما. لذا سيظل من الصعب على نظام أردوغان تجفيف منابع جماعة كولن المناوئة له بسبب توسع امتدادها بالقارة. ينسحب الأمر ذاته على المعارضة التركية.