الموت الأسود فى القرون الوسطى
تفشّى الطاعون فى وقت ما فى ثلاثينيات القرن الرابع عشر من موطنه المعزول فى أراضى آسيا الوسطى الشاسعة، ومع أنه ربما انتشر شرقاً فى الصين وجنوباً فى شبه القارّة الهندية، فإن السجلات الواردة من هذه المناطق لا تخبرنا إلا بالقليل.
بيد أن المرض انتقل شرقاً من دون شك، وظهر فى المناطق الشرقية من العالم الإسلامى فى أواسط أربعينيات القرن الرابع عشر. وامتدّ إلى الجنوب الغربى حول البحر الأسود أو عبره، فضرب القسطنطينية والأطراف الغربية للبحر المتوسط فى أواخر سنة 1447.
وفى ذلك الوقت بدأ المسلمون والمسيحيون يسجّلون ما عرفوه عن منشأ الطاعون ومساره المبكّر، والأهوال التى لم يعودوا راغبين فى أن يشهدوها.
وتضرّع الأتقياء والتقيّات، وقدّم الكهنة والأطباء الرعاية للمرضى والمُحتضَرين، وانتقد الأساقفة خطايا البشر التى أغضبت الرب واستنزلت سخطه المتمثّل فى الطاعون. وبعد انحساره تاب قسم من الناس، واستغلّ آخرون الضعفاء بلا رحمة، وتنفّس الجميع الصعداء بانتهاء البلوى، لكن أهوال الفترة الممتدة بين سنتى 1347 و1352 لم تكن إلا البداية فحسب. ومع أن الطاعون لم يصل ثانية البتة إلى هذا الحدّ من الانتشار والفتك، فإنه ظلّ يتفشّى بين الحين والآخر بينما أشرفت القرون الوسطى على نهايتها فى الغرب، ويبدو حيث تكون السجلات موثوقة أن الطاعون كان يتفشّى كل عشر سنين تقريباً، وأن الوفيات تراوحت بين 10 و20 بالمئة بدلاً من 40 أو خمسين بالمئة.
ويبدو أن الموت كان أشد فتكاً بالفتيان من البالغين، وبالنساء من الرجال، مع أنه لم يكن أحد يتمتع بالمناعة.
وقد أدى هذا الوضع إلى عدم تزايد السكان لمدة قرن ونصف القرن، لكنه حثّ أيضاً على إدخال العديد من التغييرات على السياسة العامة التى ترمى إلى التقليل من احتدام الطاعون – أو حتى الوقاية منه، وتراوح ذلك من تحسين المرافق الصحية والرعاية الصحية إلى الحجر الصحى والإنذار المبكّر، وتكيّف الحكومات المحلية والملكية مع النظام الجديد الذى يتكرّر فيه تفشّى الوباء، حاولت مهنة الطب أيضاً التعامل مع المرض أيضاً، لكن نظرياتها ومعالجاتها كانت قديمة بالفعل وعديمة الجدوى.
ومع ذلك واصل كل جيل ثقته فى الأطباء وأنظمتهم الغذائية وأدويتهم وتدابيرهم. وعلى الرغم من فشل رجال الدين فى درء غضب الرب، فقد واصل الناس ثقتهم أيضاً فى المسيحية والإسلام. وللإصلاح الدينى الذى أدى إلى انقسام الكاثوليكية فى أوائل القرن السادس عشر جذور عميقة فى الاستياء الذى أعقب الطاعون، لكنه لم يتطوّر إلا بعد مرور قرن ونصف القرن على تفشّى الوباء لأول مرة. ولا شك فى أن البروتستنت الأوائل سعوا إلى تنقية الدين وكنيسته لا الحلول محلها.
الطاعون فى أوائل العصر الحديث
فيما كانت القرون الوسطى تفسح المجال لتغيّرات عصر النهضة وابتكاراته، والكاثوليكية تتصارع مع تحدى البروتستنتية، استمرّ الطاعون فى التفشّى بين الحين والآخر. لكن مع انبلاج أوائل العصر الحديث، لاحظ الناس أن هذا المرض أصبح محدوداً على نحو متزايد فى المناطق الحضرية، ومع نمو حجم المراكز التجارية والحكومية والإدارية والتعليمية والصناعية والثقافية وتزايد تعقيدها، واصل المسؤولون والحكام اتخاذ الإجراءات المضادّة لهذا المرض الوبائي، ووسّعوا نطاق أنشطتهم وحدّتها، فأنشأت حكومات المدن المجالس الصحية والهيئات القضائية للإشراف على أنظمة الإصحاح والحجر الصحى فى المدن والمناطق التى تديرها.
وموّلت مستشفيات الطاعون ومصحّات الأوبئة لعزل المرضى وأغلقت الموانئ والأنهار لوقف حركة المرور الملاحية المميتة. ووضعت السياسات والآليات لعزل المرضى – بل حبسهم – وعائلاتهم فى بيوتهم. ولأنها رأت أن جذور تفشيات الطاعون المحلية تعود إلى الأحياء الفقيرة، فقد كانت تغلق هذه الأماكن عند أول بوادر ظهور المرض، وتحكم على قاطنيها بملازمتها والمعاناة فى حين تحمى فى الظاهر المدينة على العموم.
وتبادلت الحكومات الصغيرة والكبيرة الأفكار وتعلّمت من بعضها بعضاً عندما أدركت جميعاً أن ليس فى استطاعة أى منها العمل بمفردها لوقف حركة الطاعون الذى لا يقرّ بأى حدود سياسية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة