"طالع من الشق يشتق وله عينين وحواجب بحق"، تقولها زينات صدقى أو فلة فى الفيلم الكوميدى، الجريء، "الآنسة حنفي" (1954) إخراج فطين عبد الوهاب، ردًا على تعنت حنفى "إسماعيل ياسين"، ابن الزوج الذى يمارس "حمشنته" الذكورية على نساء بيته حتى أنه يمنعهم من الإطلالة على الحارة من النافذة، متحججًا بأنه رجل "حمش" لم يسمح حتى لأمه قبل رحيلها بالنظر من النوافذ؛ على اعتبار أنه الفعل العيب، غير المسموح به للنساء، وهو ما ترفضه نواعم "ماجدة الصباحي" ابنة زوجة الأب، مستنكرة أفعاله التى وصلت أنه تسبب فى حرمانها من مواصلة تعليمها والاكتفاء بالابتدائية التى فشل هو فى الحصول عليها، تخبره أن "الستات فى أوروبا بتخطب فى البرلمان واحنا لسة هنقف ورا الشبابيك"، ثم تساندها والدتها وتقول: "المرأة دلوقتى لها حق مساوى للرجل"، كل ذلك فى الفيلم الذى يناهض الاستبداد الذكورى والظلم الاجتماعى للمرأة، فى مقابل الرجل الذى يستحوذ على كل الحقوق، يسجن المرأة بين أربعة جدران؛ بينما يستمتع هو بالسهر فى الكباريهات مع أصدقائه، ثم يناوش الفيلم هذا الاستبداد وينقل القصة إلى محور أخر حين يتحول "حنفي" إلى "فيفي" بعد إجرائه عملية عبور جنسى من رجل لامرأة.
أنه التحول الذى تبدّل فيه مسار بطل الفيلم من رجل متشدد، يغلق النافذة فى بداية الأحداث، إلى امرأة تفتح النافذة فى النهاية، إنسانة تصبو نحو حريتها وحقها فى الاختيار، بأسلوب مخرجه فطين عبد الوهاب شديد المصرية فى السخرية والتندر وصنع الإيفيهات والمفارقات الضاحكة، صاحب السبعة وخمسين فيلمًا التى أحدثت تغيرًا ملموسًا فى عالم السينما المصرية الكوميدية، وجسارة كاتبه جليل البندارى الذى أنتج الفيلم بنفسه، بعد أن خشى المنتجين من إنتاج قصة تتناول قضية حساسة مثل تحول رجل إلى إمرأة حتى ولو حتى فى إطار كوميدى، ( كانت قصة مأخوذة عن حادثة حقيقية هزت الواقع المصرى حينذاك)، وعلى الرغم من بعض الأخطاء العلمية مثل القدرة على الحمل والإنجاب للشخص المتحول، لكنه توغل فى تضاريس العلاقة بين المرأة والرجل لنرى فى البداية حنفى الذى يقمع المرأة فى بيته بهواجسه البالية، ثم حين يتحول إلى امرأة إثر عملية جراحية؛ تنقلب أحواله ويصبح فيفى التى تقاوم كل وسائل القمع ضد النساء، وتناضل من أجل حقها فى الاختيار والزواج من الرجل الذى أحبته، بل أن الحوار، بصرف النظر عن مباشرته وخطابيته، مفعم بعبارات تقدمية بالنسبة لزمن إنتاج الفيلم؛ نحو 66 عامًا تقريبًا، كما فى المشهد الذى جمع بين والد حنفى وزوجته التى تقول له: "دلوقتِ إبنك بقى بنت"، فيرد عليها: "وماله؟ مش خلقة ربنا؟"، ومثلما قالته نواعم لفيفى بعد عملية التحويل:"مش عيب الراجل ينقلب ست، ومش عيب الست تنقلب راجل/ العيب أن الراجل يكون أنانى ويحرم البنت من التعليم ويخليها تعيش فى سجن زى اللى احنا عايشين فيه"، كذلك كان الفيلم تحولًا فارقًا فى مشوار اسماعيل ياسين التمثيلي.
صحيح أنها ليست المرة الوحيدة التى يقوم فيها بدور امرأة، لكن التفاوت هذه المرة صنعه الموضوع المغامر، بل أننى أكاد أراه من زاويتى الخاصة واحدًا من أصدق الأدوار النسائية، ولا أبالغ فى شعورى بأن "سمعة" فى هذا الدور كان من أجمل السيدات ظهورًا على الشاشة، لا تثنينى عن ذلك "شلاضيمه" وفمه الكبير الذى يعرف كيف يستخدمه ليجلب الضحك، لأنه فى هذا الدور فطِن إلى تفاصيل وأحاسيس الفتاة العادية، الملهوفة على الحب والزواج، بدت درايته بها واضحة فى الصورة والهيئة والطلعة والحركة، من حنفى غير المتساهل، إلى فيفى المترفة فى الدلال والغنج، دون التوقف عند صوتها أو شكلها الفاحش فى "الوحاشة" بدرجة قد يستهجنها الأخرون، أما بالنسبة لى فإن إسماعيل ياسين فى هذا الفيلم "عاجبانى وحاشته"، كعنوان الأغنية التى غنتها له شادية من ألحان كمال الطويل فى فيلم "إوعى تفكر" (1954) إخراج إلهامى حسن، وحاشته طيبة، مطمئنة، راعية لمشاعر إنسانية تبهج القلب وتفرحه، لا تردعها أبدًا "لخبطة" الشكل، بل تستدعى صوت فايزة أحمد وهى تغنى له "يا حلاوتك يا جمالك" من ألحان فريد الأطرش فى فيلم "المليونير الفقير"(1959) إخراج حسن الصيفي.
عمومًا فإن إسماعيل ياسين برع كممثل "كاراكتر" فى استخدامه الشكل "الملخبط" لإثارة الضحك فى أفلام كثيرة، وهو هنا ينخرط فى واقع إنسانى حاول الاشتغال عليه بأسلوبه الخاص، كما أنه ليس الممثل الوحيد الذى جسد شخصيات نسائية، فعل هذا على سبيل المثال لا الحصر: على الكسار، عبد المنعم إبراهيم، عادل إمام، سمير غانم، جورج سيدهم، محمد هنيدى، محمد سعد وغيرهم، الأمر فقط استلزم بعض التغييرات الشكلية فى المظهر والحركة؛ وبالطبع ارتداء فستان وباروكة وعمل الماكياج اللازم؛ هذا الاتجاه التمثيلى لم يبتدعه الممثلون المصريون ولا يخصهم وحدهم، فمن ينسى جاك ليمون مثلًا فى فيلم" البعض يفضلونها ساخنة" (1959) من إخراج بيلى وايلدر، حصل عنه على جائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام لأفضل ممثل أجنبى، كذلك جائزة الجولدن جلوب لأفضل ممثل فى فيلم موسيقى أو كوميدى، حين ارتدى الملابس النسائية خلال دوره الذى أداه أمام مارلين مونرو التى حصلت هى الأخرى على جائزة جولدن جلوب لأفضل ممثلة فى فيلم كوميدى أو موسيقى، ربما كانت حيلة تقمص الرجال لأدوار نسائية أو حتى تنكرهم فى زى امرأة خلال بعض الأفلام التراجيدية، هى لضرورة درامية معينة فرضتها الأحداث، كما فعل مثلًا نور الشريف فى فيلم "المطارد" (1985) إخراج سمير سيف، المأخوذ عن "الحرافيش" لنجيب محفوظ، حيث تخفى "سماحة" حفيد عاشور الناجى فى ملابس نسائية ليستطع أن يصل إلى زوجته فى القاهرة بعد هروبه، أو كما فعل شريف منير فى "هيستيريا" (1998) إخراج عادل أديب، عندما قدم دوره المركب لشخصية شاب جامعى تحت وطأة العوز يضطر أن يرتدى ملابس فتاة ليل، لكن الموضوع له مغزى أخر تمامًا فى الأفلام الكوميدية، لا هدف له فى معظم الأحيان سوى الإضحاك من خلال لعبة يتواطأ فيها الجمهور مع الممثل الذى يعرف تمام المعرفة أنه رجل يتنكر فى ملابس سيدة، ومن خلال هذه المفارقة التى تتمحور حولها اللعبة يضحك الجمهور ويشعر الممثل أنه نجح فى ممارسته وأدائه، فيرضى الجميع وتسعد كل الأطراف من الخدعة المكشوفة كما ألعاب الأطفال البريئة أحيانًا أو وفق القاعدة الشائعة "دعنى أخدعك؟.. دعنى أنخدع" حينًا!".
هذه الخدع ربما نصادفها كثيرًا فى "الآنسة حنفي"، ليس استغراقًا فى التواطؤ؛ إنما كنوع من الإشارات الذكية الدالة على النزعة التقدمية المشحونة بها الحكاية، المفارقة الكوميدية هنا تقوم على التناقض بين الشكل الجسمانى وتقليد النساء، لكنها ليست مفارقة سطحية وإنما تنبع من فكرة تحمل هدفًا غير الضحك المجانى، الفكرة تتلخص فى نبذ الذكورية وإنصاف المرأة بطرح كوميدى وتقاطعات نابهة، مثل هذا المشهد الذى قدم محاكاة ساخرة لمشهد الشرفة فى مسرحية "روميو وجولييت" بين فيفى وأبو سريع، الصديق القديم الذى تحول إلى الحبيب وهو يطلب منها ثلاث جنيهات كى يدفع نفقة زوجته السابقة، أبو سريع الجزار الذى تتحدى المجتمع وتهرب معه، ثم تعود وهى حامل فى توائم أربعة.
لابد أن تصدق إسماعيل ياسين فى دور هذه المرأة التى تصرخ وهى تلد وتنادي:"يا أم السعد"، إبهار وإتقان لافت لممثل محترف، لعل هذا يفسر بعضًا من حضوره وبقائه حتى الآن بعد نحو 48 عامًا من رحيله فى العام 1972، دوامه على الشاشة يتجاوز التفسيرات الضيقة أو تنظيرات تضعه بين شِقى الرّحى: المزاج الجماهيرى والنقد النخبوى، فالحكم النهائى يكون لحالات البهجة التى صنعها، والتى حولته جزءً من التراث الشعبى منذ أدواره كسنيد والبطل الطيب سيء الحظ والمونولوجست الذى أدى ألحان الكبار: محمد عبد الوهاب، أحمد صدقى، محمود الشريف، محمد فوزى، فريد الأطرش، منير مراد وغيرهم، حتى أصبح ظاهرة شعبية، سواء تكرست هذه الظاهرة فى ظل ثورة يوليو 1952، أو أنها عبرت عن طبقة عريضة من فقراء وغلابة الوطن، فإنها امتدت إلى الأطفال الذين شغفوا به وتعلقوا ببراءته وسذاجته، ربما شعروا أنه يشبههم، ظاهرة تأبى أن تندثر كما وصفتها صديقتى المغربية حين حكت لى أن صغارها لا يشاهدون أفلامًا عربية، وأنها تخشى عدم ارتباطهم باللغة العربية؛ فأحضرت لهم مجموعة من أفلام إسماعيل ياسين التى صاروا يحفظونها عن ظهر قلب، بينما سألت أنا ابنة شقيقى (9 سنوات) عن إسماعيل ياسين، فإذا بها تعدد لى عناوين أفلامه وتقلده قائلة:"فتشنى فتش"، جملته الشهيرة فى فيلمه "ابن حميدو" (1957) إخراج فطين عبد الوهاب، ثم تمد شفاهها إلى الأمام كما يفعل فى أغلب أفلامه وتقول:" أه ياااااااا بُقي".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة