مرت فصيلة إنجليزية على بلدة «قليوب»، وهى فى طريقها إلى القناطر الخيرية بمحافظة القليوبية يوم 19 سبتمبر 1897 لعمل رحلة تدريبية، وفى فجر 20 سبتمبر، مثل هذا اليوم، فوجئ أهالى قليوب بقوات الاحتلال الإنجليزى تحاصر البلدة، وتفتش البيوت، وتمنع الخروج منها فى مشهد قمع وإذلال اعتادت أن تمارسه ضد المصريين منذ بداية احتلال مصر بعد هزيمة جيش عرابى فى التل الكبير يوم 13 سبتمبر 1882.
القصة بوقائعها يذكرها الكاتب محمد سيد الكيلانى فى كتابه «ترام القاهرة» نقلا عن جريدة «المؤيد، 21 سبتمبر 1897»، غير أنه يضعها فى سياق رصده للتأثير الحضارى الذى أحدثه دخول الترام إلى القاهرة يوم 12 أغسطس 1896، وشمل تغيرات عمرانية وسياسية واقتصادية واجتماعية.
كان يوم 31 أغسطس 1897 أحد الأيام التى ظهر فيها هذا التغيير، حيث احتفل المصريون بطريقة باهرة بعيد الجلوس، ينقل الكيلانى عن «المؤيد»: «منذ صباح 28 أغسطس 1897 أخد السكان يجيدون فى إقامة الزينات، لا فرق بين غنى وفقير، وكانت الأعلام ترفرف فوق جدران المساكن التجارية، وأقيمت حفلات ساهرة فى حديقة الأزبكية وصالات الرقص والغناء والمسارح، غنى فيها المغنون، ولعب الحواة، وانقلب الليل نهارا من شدة الأضواء، وأطلقت المدافع تحية وابتهاجا بالعيد، وكذلك السهام النارية، وسيرت شركة الترام مركباتها حتى الساعة الثالثة صباحا، وأقيم احتفال كبير فى الأزهر، حضره آلاف من الطلبة والعلماء، وألقيت فيه الخطب، وأنشدت القصائد».
يذكر «الكيلانى» أن الصحف العربية والإفرنجية، الإسلامية والقبطية، أجمعت على أن هذا الاحتفال لم يسبق له مثيل، وعلى أن سكان القاهرة تنبهوا فى هذا العام بالذات إلى ما يعنيه احتفالهم بعيد الجلوس، تلك الاحتفالات دلت على تكُون الرأى العام، فقام لأول مرة بمظاهرة رائعة اعتبرت موجهة ضد الدولة المحتلة، وكان ما يحدث فى العاصمة ينعكس صداه فى الأقاليم، ففى الأقصر أقيمت الزينات، وكان فى مقدمة المحتفلين بالعيد أعيان المدينة وهم، أيوب بك صبرى، وأحمد عياد، ومنشتح بك كرار، وعلى مراد، وعبدالكريم بك العمارى.
فكر الإنجليز فى الرد، وذلك بالقيام بمظاهرة عسكرية لإرهاب الشعب، وتذكيره بأنهم أصحاب الكلمة العليا، وتذكر «المؤيد» أنه فى 19 سبتمبر 1897 خرجت فصيلة إنجليزية فى رحلة تدريبية إلى القناطر الخيرية، فمرت بقليوب، حتى إذا كانت أمام مصنع للنسيج اليدوى يملكه وطنى اسمه على جلجل، وكان العمال فى فترة راحة فعبثوا بالجنود، فادعى قائد الفصيلة أن العمال اعتدوا على جنوده بالبصق، وإظهار علامات الازدراء والرمى بالحجارة»، تضيف «المؤيد»: «فلما سمع جيش الاحتلال بذلك، أظهر أشد الغضب، وأصر على وجوب تأديب المعتدين، وكان كرومر، المندوب السامى البريطانى، فى الإسكندرية فحضر على عجل، واجتمع بالقائد المذكور، وأبلغ الأمر إلى نظارة (وزارة) الداخلية، وتقرر أن يتولى هرفى باشا، حكمدار العاصمة، التحقيق تمهيدا لتقديم المتهمين إلى المحكمة المخصوصة».
تؤكد «المؤيد»: «تجمعت عند كوبرى شبرا بعض كتائب من جيش الاحتلال، مشاة وفرسان، وسارت ليلا إلى قليوب، وفى فجر العشرين من سبتمبر 1897، استيقظ الأهالى من نومهم، فأبصروا الفرسان الإنجليز محيطة بالبلدة من جوانبها الأربعة، وبعضا منهم متفرقين فى داخلها، وحظروا على الرجال والأولاد الخروج من البلد إلا النساء فإنهن كن يعبرن كيفما شئن، وطبقت الولولة وأصوات البكاء والاستغاثة تلك الأنحاء، وتزيّا كثيرون بأزياء النساء، واخترقوا الحصار فلم يعرفهم أحد، إلا رجل انكشفت حيلته فسيق إلى المركز، وسئل عن ذلك فقال: «إنى فقير لا قوت فى منزلى، ولامعين لى، فاحتلت على الخروج بهذه الحيلة، لا لقصد غير أننى أبتاع كيلة من الغلة لأقتات بها، فأفرج عنه».
تضيف «المؤيد»: «أما العساكر الإنجليزية، فكانت تقبض على سائر رجال قليوب، وغلمانها، وتقودهم إلى المراكز، حيث تجمع خلق كثير، وكان قائد الفرسان الإنجليز المعتدى عليهم حاضرا أثناء التحقيق، فعرض عليه هذا الجمهور الكبير للتعرف على الفاعلين الأصليين، فعرف ثلاثة منهم، وأطلق جانب الآخرين جميعا إلا سبعة عشر شخصا وضعت الأغلال والقيود فى أيديهم، وسيقوا مشاة إلى شبرا ومنهما حملتهم عربة إلى المحافظة، ومن بينهم على جلجل، صاحب مصنع النسيج، ونحو الساعة الواحدة بعد الظهر فك الحصار، وأبيحت للأهالى حرية الدخول والخروج، وحكمت المحكمة المخصوصة على «على جلجل» بمرافقة الحملة السودانية والعمل بها ثمانية أشهر، وعلى «على الصعيدى» ومصطفى بلال وإبراهيم عزيون بمرافقة الحملة المذكورة والعمل بها ستة أشهر، وبرأت الباقين بعد أن أنذرتهم بعدم العودة إلى مثل تلك الأمور، وذكرت أنها استعملت الرأفة مع المتهمين، وتوجه مدير القليوبية إلى مقر قيادة الجيش البريطانى واعتذر رسميا عن الحادث».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة