- تجميد حركة البناء منذ مارس يضغط على المقاولين والحرفيين والبنوك وقطاعات الحديد والأسمنت والنقل ويزيد أعباء أزمة كورونا
- سر إيقاف المحافظات للبناء فى المواقع المفتوحة وتجميد التراخيص السابقة رغم خطورة الحفر وتجمعات المياه على الشوارع والمرافق
- تدخل السيسى اليوم يؤكد أن الملفات العالقة لا تُحل إلا بمبادرة القيادة السياسية وأن بعض الجهات الحكومية تحتاج لوقفة جادة
- آلاف المشروعات والأعمال الإنشائية مُجمدة فى المحافظات منذ مارس الماضى بدون مبرر واضح أو مراعاة جادة للأوضاع الاقتصادية
- تخفيف آثار كورونا ومراعاة ظروف العمالة غير المنتظمة يتطلب وضع حلول عاجلة لملف اشتراطات البناء وسرعة العودة لإصدار التراخيص
- تجميد البناء طوال الفترة الماضية يؤثر على الأنشطة الصناعية والتجارية المرتبطة بالعقارات ويُربك ملفات الائتمان وأسعار السكن
حالة من التجميد الكامل لقطاع البناء، بدأت قبل قرابة 7 أشهر برغبة جادة من الدولة لضبط الأوضاع، ومراجعة المخططات العمرانية وما وصلت إليه بعض المناطق، وإعادة هيكلة المنظومة وتخطيط التوسعات الإنشائية واشتراطات البناء، وعلى قدر ما بدا الأمر مُبشّرا بقرب انتهاء الفوضى الموروثة منذ عقود طويلة، فإن إدارة بعض الجهات التنفيذية للملف لم تكن على قدر تلك التطلعات، فأغرقت طويلا فى الصمت، وتركت الأمور باردة وبطون الشوارع مفتوحة، وملايين العمال والشركات والمقاولين، فضلا عن الأنشطة الصناعية والتجارية المرتبطة بقطاع العقار والإنشاءات، عالقة فوق جبل عظيم من الثلج، حتى تدخل الرئيس صباح اليوم مقررا إنهاء التقاعس والتقصير، وموجها الحكومة بسرعة معالجة الملف وإطلاق القطاع مجددا بعدما قيّدته ممارسات بعض الجهات التنفيذية طوال الفترة الماضية من دون مُبرر أو حاجة فعلية لكل هذا الوقت.
الموقف الذى شهده مجموع تكرير البترول فى منطقة مسطرد، صباح الأحد، يؤكد أن كثيرا من الملفات الحيوية تظل مُجمدة على مكاتب الحكومة حتى يتدخل الرئيس، وأن القيادة السياسية تملك رؤية شاملة واستشعارا حقيقيا لأهمية الموضوعات وتأثيرها على الشارع، بشكل أكبر ممن يُفترض أنهم فى قلب هذا الشارع من السياسيين والتنفيذيين ورجال المحليات. فبعدما وجه الرئيس خلال مارس الماضى بمراجعة ملف البناء وإعداد مخططات واشتراطات جديدة، عاد اليوم ليضع نقطة فى آخر سطر الصمت الحكومى الطويل، مطالبا رئيس الوزراء بسرعة إنهاء الملف وإعلان الضوابط المستحدثة، لفك حالة التجميد والتوقف المسيطرة على القطاع الحيوى، قائلا فى رسالته الواضحة للدكتور مصطفى مدبولى: "اشتراطات البناء والدنيا واقفة وده مش من المصلحة، خلصوا اشتراطات البناء واعلنوها للناس، والمسار الجديد، وإزاى هننظم عملية البناء فى مصر علشان الدنيا تتحرك".
7 أشهر من التجميد القاسى
بدأ الأمر خلال مارس الماضى، وقتها صدرت قرارات حكومية بوقف البناء، وتجميد منح تراخيص جديدة مع مراجعة القديم منها، وبينما استبشر المواطنون ومجتمع الأعمال بالأمر، معتبرين أنه تحرك جاد لتنظيم القطاع وإطلاق قدراته الكامنة على وجه صحيح، وبصورة تُعزز حجم أعماله وما يملكه من إمكانات نمو وتنشيط للقطاعات المرتبطة به، فإن سياسات الحكومة تجاه الملف لم تكن على هذا المستوى من التوقعات، لتتوالى المحطات المثيرة للاستغراب والدهشة والملاحظات منذ هذا التاريخ حتى تدخل الرئيس لحل الأمر وإنهاء الوضع الملتبس.
قرار التوقف قبل 7 أشهر تبعه توجيه من وزارة التنمية المحلية للمحافظين، ثم كتب دورية عديدة بشأن إجراءات التعامل مع الأمر، ثم قرارات عديدة بتشكيل لجان فنية فى المحافظات لفحص المناطق والأحياء وتحديد ما يُحظر فيه البناء مُجددا بسبب ارتفاع الكثافة، مع وضع الضوابط والاشتراطات الفنية والإنشائية للتراخيص الجديدة، ومراجعة القديم منها تمهيدا لاستئناف العمل مع المتابعة الجادة لالتزام الشركات والمقاولين بتلك الضوابط. كانت الصورة العامة جيدة على صعيد الخطط والبرامج الزمنية وآليات العمل ووعود الحكومة والمحافظات، لكنها للأسف لم تتجاوز حيز الوعود!
قبل أسابيع تلقينا شكوى من أحد الأفراد بالإسكندرية، قال فيها إن لديه قطعة أرض مُرخصة للبناء منذ شهور سابقة على قرار التجميد، وأنه بدأ العمل بالفعل أواخر العام الماضى، ثمّ اضطر للتوقف مع صدور قرار الحكومة والتنمية المحلية بتجميد البناء، على وعد بأن تُراجع اللجان الفنية كل التراخيص وتوجه باستئناف العمل، ومنذ مارس 2020 ظلت الأمور على ما هي عليه حتى الآن، الموقع قيد الإنشاء، والأرض محفورة بعمق 6 أمتار، وتجمعات المياه تضطرهم لسحبها على فترات قصيرة، ما يُهدد سلامة الشارع وشبكات المرافق والخدمات، ويُنذر بمخاطر الهبوط الأرضى للمناطق والعقارات المجاورة. المؤسف أن هذا الوضع الخطير يتكرر فى مئات الحالات داخل الإسكندرية، وفى القاهرة والجيزة وباقى المحافظات على امتداد مصر، ولا مبرر لتلك الحالة الممتدة من الخطر والخوف والتجميد و"بطون الشوارع" المفتوحة، فضلا عن بطالة ملايين العمال والفنيين والحرفيين والمهندسين، إلا أن المحافظات تقاعست عن أداء المهام المطلوبة منها، أو أن التنمية المحلية ومن ورائها الحكومة كانت لديهم رغبة فى الوصول إلى هذا الوضع، حتى لو لم يعلنوا تلك الرغبة، وبالمخالفة لتوجيهات القيادة السياسية ورؤيتها لأهمية البناء والتنمية وضرورة دعمهما والإبقاء على معدلاتهما المرتفعة وفق ضوابط وآليات سليمة.
آثار مرهقة للاقتصاد والمواطنين
بعيدا من مطالب ضبط قطاع البناء، التى ينحاز إليها الجميع حتى داخل القطاع، فإن آثار التجميد الطويل وعدم حلحلة الملف طوال الشهور الست الماضية ترك آثارا سلبية عديدة، ليست على العاملين فى سوق العقار والإنشاءات فقط، وإنما على قائمة طويلة من الصناعات والأنشطة التجارية والخدمية والمالية المرتبطة بالمنظومة، وزاد تأثير تلك الضغوط بالنظر إلى تزامنها مع تداعيات أزمة فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19"، التى تكبّدت الدولة أعباء ضخمة بسببها، ووجهت مخصصات مالية للإنعاش العاجل وتنشيط السوق ومساعدته على عبور تلك العقبة العالمية وتلافى آثارها الحادة على القدرات الإنتاجية وتداولات التجارة وسلاسل الإمداد والتوريد.
المؤكد أن سوق العقارات أبرز المتأثرين بتجميد أنشطة البناء، وعدم اتخاذ الحكومة إجراءات واضحة وسريعة فى هذا الشأن منذ مارس الماضى، سواء من خلال آلاف المشروعات والمواقع المفتوحة التى طالها التجميد، أو تعطّل ملايين العمال والمهندسين والحرفيين فى أحد أكثر القطاعات المستوعبة للعمالة، وأهمها فيما يخص معدلات التوظيف ونمو سوق العمل، فضلا عن تأثر آلاف المصنعين والمستوردين فى قطاعات الحديد والصلب والطاقة والأسمنت ومستلزمات البناء، والصناعات المغذية للتشطيبات، وشركات النقل، والمكاتب العقارية، وشركات التمويل العقارى، إلى جانب البنوك التى باتت مجبرة على منح تسهيلات للشركات والمقاولين ومدّ آجال الحِزَم والمحافظ الائتمانية بسبب توقف عوائد المقترضين ومحدودية قدرتهم على الوفاء بالالتزامات المالية.
يُضاف إلى كل ما سبق، أن هناك تكلفة إضافية ستقع على عاتق الدولة وأجهزة المحليات جرّاء تجميد أوضاع المشروعات قيد الإنشاء، وتأثير أعمال الحفر وتجمعات المياه على استقرار التربة وشبكات الطرق والمرافق فى تلك المناطق، ما يتطلب تعزيز مخصصات الإنفاق على البنية التحتية وضبط الخدمات وإعادة الشىء إلى أصله فى الأماكن المتضررة، وإلى جانب كل تلك الأعباء الواقعة على الدولة والمستثمرين والعمال، فإن كثيرا من تلك المشروعات التى انطلقت قبل قرار التجميد حددت جداول زمنية لإنهاء الأعمال، وانتهت من تسويق الوحدات مع التزامها بمواعيد محددة للتسليم، وهو ما يُكبدها خسائر فيما يخص الغرامات أو الشروط الجزائية عن التأخير، فضلا عن توقف سداد الأقساط ومحدودية حركة البيع وتداول العقارات، بشكل يُعطل قطاع الإنشاءات الذى يُمثل أحد أنشط القطاعات ضمن مكونات النمو، بحصة لا تقل عن 20% من إجمالى الناتج القومى، وبمتوسط نمو يقارب ضعف معدلات نمو الناتج الإجمالى.
فاتورة التقاعس وقائمة المسؤولين
حتى الآن تتعطل آلاف المشروعات الإنشائية على امتداد مصر، وهو أمر كان يُمكن أن نتجنبه، أو على الأقل أن نُرشّد فاتورة خسائره، حال التزمت الحكومة والجهات التنفيذية التابعة بإنهاء الملف وفق جدول زمنى مضغوط، يسمح بمراجعة التراخيص القديمة وإعداد اشتراطات بناء جديدة وتحديد آليات واضحة للمتابعة والرقابة، مع توزيع المسؤوليات وإلزام المحافظات والمدن والأحياء والوحدات المحلية بتنفيذ الرؤية الجديدة بشكل صارم، دون تجميد الموقف أو تعطيل الشركات وحركة البناء طوال تلك الشهور.
الانفراجة الأكبر فى هذا الملف جاءت من خلال القيادة السياسية، مع توجيه الرئيس للحكومة بسرعة اعتماد الاشتراطات الجديدة وإعلانها، وفتح الباب للمواطنين والمقاولين وراغبى البناء فى استكمال أعمالهم وفق الضوابط المُحددة، وهو ما تبعه تشكيل لجنة وزارية لإنهاء الاشتراطات على نحو عاجل، لكن يتطلب الأمر متابعة جادة من رئيس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولى، وهو قيادة تنفيذية نشيطة وذات رؤية نوعية متطورة، فضلا عن خبراته الواسعة فى قطاع الإنشاءات من خلال تخصصه الأكاديمى وتوليه حقيبة وزارة الإسكان فى وقت سابق، وذلك حتى لا تأكل المحليات كعكة الوقت كاملة، وتستمر فى حالة التجميد وتبريد الملف شهورا أو أسابيع أخرى إضافية.
بحسب الجدولة الزمنية المعلنة من الحكومة فى وقت سابق، فإن مهلة وقف البناء لحين مراجعة التراخيص وإعلان اشتراطات جديدة، تنتهى فى الرابع والعشرين من نوفمبر المقبل، ما يعنى أنه حال استفادة الحكومة من المدى الذى حددته لنفسها أننا سنكون إزاء شهرين إضافيين من التجميد، يتراكم فيها إنتاج المصانع، وتتوقف السيارات وخطوط الطاقة ومستوردو وتجار مستلزمات البناء، وتتعطل الشركات والمقاولون وملايين العاملين من عشرات التخصصات، فى وقت لا يحتمل فيه الاقتصاد نزيفا مجانيا بينما تجتهد الدولة فى مواجهة تداعيات كورونا، ويضطر الرئيس إلى توجيه الحكومة بتمديد منحة العمالة غير المنتظمة، وأغلبها من الملتحقين بقطاع البناء، حتى نهاية العام الجارى، ونحتاج أشد الحاجة لتنشيط السوق وتعزيز قدرات الإنتاج والنمو للخروج من الأزمة مستقرين كما هو الحال حتى الآن.
أمام كل هذا التعقيد الذى يحيط بالملف، ومع اهتمام القيادة السياسية الواضح باستعادة عافية الاقتصاد كاملة، وفى القلب منها قطاع الإنشاءات وسوق البناء والعقار، وبثقة مطلقة فى إدارة الدكتور مصطفى مدبولى وحكومته للملفات الحيوية وبرامج الإصلاح والتحديث والتنمية المستدامة، يتطلب الأمر إعلانا عاجلا لخطة زمنية مُكثفة، تتضمن آليات ومواعيد مراجعة التراخيص القديمة، وموعد اعتماد اشتراطات البناء الجديدة وإعلانها، والآليات والإجراءات المستقبلية لمنح التراخيص، ومسارات المتابعة والرقابة وإدارة ملف البناء من خلال الحكومة وقطاعات الإسكان والتنمية المحلية والمحافظات وأجهزة المحليات، بحثا عن طوق نجاة عاجل لإنعاش القطاع الحيوى بالغ الأهمية، وتنشيط سوق العقارات وقطاعات التشييد والطاقة والحديد والأسمنت ومستلزمات البناء، والأهم مساندة آلاف المنخرطين فى القطاع من الشركات والمقاولين والمهندسين، وآلافا من راغبى السكان والباحثين عن وحدات جديدة، وملايين العمال والحرفيين الذين ابتهجوا بتوجيه الرئيس اليوم، وينظرون إلى الحكومة بترقب فى انتظار الفرج.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة