المسؤولية الجنائية هي صلاحية الشخص إلي أن يتحمل تبعات سلوكه الذى قد يشكل جريمة، وأساس المسؤولية الجنائية لدي الفكر الجنائي الحديث حرية الإنسان في الاختيار، فقد كان في وسعه أن يكون خيرا، ولكنه تخلى عن الطريق السوى وسلك الطريق المعوج، فحق عليه العقاب، وبالتالي لا تنتفي المسؤولية عنه إلا إذا فقد الشخص قدرته على الإدراك والاختيار.
التشريع قديما أعتبر المرض النفسى لا يندرج ضمن موانع العقاب
وخير مثال ودليل على ذلك - الجنون وعاهة العقل فقد نص قانون العقوبات الصادر سنة 1937 إذ كان نص المادة 62 يجري علي أنه لا عقاب علي من يكون، فاقد الشعور والاختيار لحظة ارتكاب الجريمة لجنون أو عاهة في العقل، أما الاضطرابات النفسية أو بالأحرى المرض النفسي، فكان حتي وقت قريب لا يترتب عليه تخلف المسؤولية الجنائية، إذ كان الأطباء وعلماء النفسي، يرون أنه مجرد خلل في شخصية الإنسان يجعله غير سوي، ولكن لا يفقده الإدراك والشعور تماما.
مدى أثر اضطرابات الشخصية النرجسية علي المسؤولية الجنائية؟
وخلال الفترة الماضية وقعت العديد من الجرائم باسم "مريض نفسى" وهى جرائم يشيب لها الولدان شغلت الرأى العام منذ وقوعها، لا لبشاعة تفاصيلها وغموض أحداثها فقط، إنما لاكتشاف أن مرتكبها مريض نفسى، فالأب يقتل أبناءه بدم بارد والزوج يُمثل بجسد زوجته أو يقتلها أمام أعين أبناءه كما حدث مع قاتل زوجته ببولاق الدكرور، والأخ يلتهم أحشاء أخيه فى غفلة من الزمن، وبدون مقدمات ومؤشرات أولية تنذر أن فى بيوتنا قنابل موقوتة.
في التقرير التالي، يلقى "اليوم السابع" الضوء على إشكالية فى غاية الأهمية تهم الملايين، تتمثل فى السؤال مدى أثر الاضطرابات النفسية علي المسؤولية الجنائية؟ أو بمعنى أدق هل المريض النفسي يكون سبباً في الإعفاء من الجريمة أو تخفيف العقوبة؟ وهل تفشى المرض النفسي في المجتمع؟ هل الضغوط الحياتية كفيلة بذهاب العقل وارتكاب أفظع الجرائم؟ هل أقرب الأقربين يمكن أن يصبح فجأة ألد الأعداء بسبب اضطراب نفسى؟ أسئلة عديدة تتبادر على الأذهان بتتبع الجرائم التى وقعت فى الفترة الأخيرة – بحسب الخبير القانونى والمحامى بالنقض إسماعيل بركة.
فى البداية - يتعرض الإنسان خلال فترة حياته للعديد من المواقف الصعبة التي يصعب على الفرد تحملها ولا يستطيع الوصول إلى حل لها، لذلك يدخل البعض في حالة من الاكتئاب والعزلة عن الآخرين، فيصاب بمرض نفسى، وفى الواقع المريض النفسي يجب أن يتعامل بطريقة مختلفة عما يتم التعامل بها مع الإنسان الطبيعى، حتى القانون يتعامل مع الشخص الذي يرتكب جريمة، ويكتشف أنه مريض نفسي عكس ما يتم التعامل مع المجرم الطبيعي الذي قام بتأدية الجريمة، وهو في كامل قواه العقلية، ولهذا قضت محكمة النقض بأنه الشخصية السيكوباتية مسئولة عن أفعالها وأن قول دفاع المتهم بأن المتهم كان مجبول علي هتك عرض المجني عليه في المواصلات العامة والزحام لوجود طغيان في غريزته الجنسية لا يعفيه من العقاب، إذ كان يتعين عليه وهو عليم بحالته أن يتجنب الزحام، كما قضت محكمة النقض فى الطعن المقيد برقم 12565 لسنة 87 قضائية - بأن دفاع المتهم في صيغه عامه بأنه مريض بالاكتئاب لا يندرج ضمن موانع العقاب، إذ هذا المرض علي فرض صحته لا ينفي الشعور والاختيار – وفقا لـ"بركة".
الاضطرابات النفسية تفقد الإنسان الإدراك والاختيار
ولكن سرعان ما أثبت العلم الحديث أن بعض الأمراض والاضطرابات النفسية تفقد الإنسان الإدراك والاختيار، وأن أغلبها يضعف هذا وذاك، مما يحتم إعفاء صاحبها من العقاب في الحالة الأولي وتخفيف جرعة العقاب في الحالة الثانية، ولهذا صدر قانون الصحة النفسية رقم 71 لسنة 2009 معدلا للمادة 62 من قانون العقوبات، فأصبح نصها لا يسأل جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أفقده الإدراك أو الاختيار, أو الذي يعاني من غيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أياً كان نوعها إذا أخذها قهراً عنه أو على غير علم منه بها، ويظل مسئولاً جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أدى إلى إنقاص إدراكه أو اختياره, وتأخذ المحكمة في اعتبارها هذا الظرف عند تحديد مدة العقوبة، وذلك طبقا للطعن رقم 17730 لسنة 88 قضائية.
متى يكون الاضطراب النفسي سبباً للإعفاء من المسئولية الجنائية أو ظرفاً مخففاً للعقوبة؟
نصت المادة 62 فقرة 1 عقوبات المستبدلة بالقانون رقم 71 لسنة 2009 بشأن رعاية المريض النفسى، وهو نص مستحدث، على إضافة الاضطراب النفسى للمتهم إذا ما أفقده الإدراك أو الاختيار وقت ارتكاب الجريمة واعتبره سببًا للإعفاء من المسئولية الجنائية، حيث أنه لا يسأل جنائيًا الشخص الذى يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى أفقده الإدراك أو الاختيار أو الذى يعانى من غيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيًا كان نوعها إذا أخذها قهرًا عنه أو عن غير علم منه، ويظل مسئولًا جنائيًا الشخص الذى يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى أدى إلى إنقاص إدراكه أو اختياره، وتأخذ المحكمة فى اعتبارها هذا الظرف عند تحديد مدة العقوبة.
ضرورة تعيين خبير للبت فى هذه الحالة إثباتًا أو نفيًا
وإذا اقتصر أثره على الانتقاص من إدراك المتهم أو اختياره يظل المتهم مسئولًا عن ارتكاب الجريمة، وإن جاز اعتبار هذا الانتقاص ظرفًا مخففًا يصح للمحكمة الاعتداد به عند تقدير العقوبة التى توقع عليه، وقد استقرت محكمة النقض على أن تقدير حالة المتهم العقلية أو النفسية من المسائل الموضوعية التى تختص محكمة الموضوع بالفصل فيها، إلا أنه لسلامة الحكم يتعين إذا ما تمسك به المتهم أن تجرى تحقيقًا فى شأنه بلوغًا كفاية الأمر فيه، ويجب عليها تعيين خبير للبت فى هذه الحالة إثباتًا أو نفيًا، أو أن تطرح هذا الدفاع إذ لا يصح طرحه بخلو الأوراق مما يفيد على وجه قاطع أن المتهم كان يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى.
المادة 338 نصت على أنه: "إذا دعا الأمر إلى فحص حالة الاضطراب العقلى للمتهم يجوز لقاضى التحقيق أو للقاضى الجزئى كطلب النيابة العامة أو المحكمة المنظورة أمامها الدعوى على حسب الأحوال أن يأمر بوضع المتهم إذا كان محبوسًا احتياطيًا تحت الملاحظة فى إحدى منشآت الصحة النفسية الحكومية المخصصة لذلك لمدة أو لمدد لا يزيد مجموعها على خمسة وأربعين يومًا بعد سماع أقوال النيابة العامة والمُدافع عن المتهم أن كان له مُدافع".
وضع المتهم تحت الملاحظة 45 يومًا
فيما يجوز إذا لم يكن المتهم محبوسًا احتياطيًا أن يأمر بوضعه تحت الملاحظة في أي مكان آخر، كما نصت المادة 339 على أنه إذا ثبت أن المتهم غير قادر على الدفاع عن نفسه بسبب اضطراب عقلى طرأ بعد وقوع الجريمة يوقف رفع الدعوى عليه أو محاكمته حتى يعود إليه رشده، ويجوز في هذه الحالة لقاضي التحقيق أو للقاضي الجزئي كطلب النيابة العامة أو المحكمة، المنظورة أمامها الدعوى إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة عقوبتهما الحبس إصدار الأمر بحجز المتهم فى أحد المحال المعدّة للأمراض العقلية إلى أن يتقرر إخلاء سبيله".
وإذا صدر أمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى أو حكم ببراءة المتهم وكان ذلك بسبب اضطراب عقلى تأمر الجهة التى أصدرت الأمر أو الحكم، إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة عقوبتها الحبس بحجز المتهم في أحد المحال المعدة للأمراض النفسية إلى أن تأمر الجهة التى أصدرت الأمر أو الحكم بالإفراج عنه، وذلك بعد الإطلاع على تقرير مدير المحل وسماع أقوال النيابة العامة وإجراء ما تراه لازمًا للتثبت من أن المتهم قد عاد إلى رشده".
محكمة النقض والتصدى للأزمة
محكمة النقض المصرية هى الأخرى تصدت للإجابة على السؤال متى يكون الاضطراب النفسى سببًا للإعفاء من المسئولية الجنائية أو ظرفًا مخففاً للعقوبة؟ وعلاقة الأزمة بالمادة 62 عقوبات المستبدلة بالقانون رقم 71 لسنة 2009 بشأن رعاية المريض النفسي، فى الطعن المُقيد برقم 27158 لسنة 86 القضائية.
قالت المحكمة فى حيثيات الحكم، أن دفاع المتهم بالمنازعة فى مدى مسئوليته لإصابته بمرض نفسى أو عقلى ينال من إدراكه أو شعوره يُعد دفاعاَ جوهرياَ، وعله أساس ذلك، تقدير حالة المتهم العقلية أو النفسية، ووجوب تحقيق محكمة الموضوع لها وتعيين خبير للبت فيها إثباتا أو نفيًا، ما دام المتهم قد تمسك بها - لما كان الحكم قد عرض لدفاع الطاعن واطرحه فى قوله : "وحيث إنه وعن الدفع بامتناع عقاب المتهم عملًا بنص المادة 62/1 عقوبات فإنه مردود إذ خلت الأوراق مما يفيد على وجه قاطع أن المتهم كان يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى افقده الإدراك أو الاختيار ومن ثم تقضى المحكمة برفض هذا الدفع".
المادة 62 من قانون العقوبات
لما كان ذلك، وكان النص فى المادة 62 من قانون العقوبات المستبدلة بالقانون 71 لسنة 2009 بإصدار قانون رعاية المريض النفسى وتعديل بعض أحكام قانون العقوبات قد نص على أنه " لا يسأل جنائيًا الشخص الذى يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى أفقده الإدراك أو الاختيار أو الذى يعانى من غيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيًا كان نوعها إذا أخذها قهرًا عنه أو عن غير علم منه، ويظل مسئولًا جنائيًا الشخص الذى يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى أدى إلى إنقاص إدراكه أو اختياره، وتأخذ المحكمة فى اعتبارها هذا الظرف عند تحديد مدة العقوبة".
الخبير القانونى إسماعيل بركة
وهو نص مستحدث يتمثل فى إضافة الاضطراب النفسى للمتهم إذا ما أفقده الإدراك أو الاختيار وقت ارتكاب الجريمة واعتبره سببًا للإعفاء من المسئولية الجنائية، أما إذا اقتصر أثره على الانتقاص من إدراك المتهم أو اختياره يظل المتهم مسئولًا عن ارتكاب الجريمة، وإن جاز اعتبار هذا الانتقاص ظرفًا مخففًا يصح للمحكمة الاعتداد به عند تقدير العقوبة التى توقع عليه، وإذ كان دفاع المتهم بالمنازعة فى مدى مسئوليته لإصابته باضطراب نفسى أو عقلى ينال من إدراكه أو شعوره، دفاع جوهرى إذ يترتب على ثبوته إعفاء المتهم عن المسئولية أو الانتقاص منها وفق ما تضمنه النص سالف الذكر .
لما كان ذلك، ولئن كان من المقرر أن تقدير حالة المتهم العقلية أو النفسية من المسائل الموضوعية التى تختص محكمة الموضوع بالفصل فيها، إلا أنه لسلامة الحكم يتعين إذا ما تمسك به المتهم أن تجرى تحقيقًا فى شأنه بلوغًا كفاية الأمر فيه، ويجب عليها تعيين خبير للبت فى هذه الحالة إثباتًا أو نفيًا، أو أن تطرح هذا الدفاع بما يسوغ - لما كان ذلك، وكان ما رد به الحكم على دفاع الطاعن فى هذا الشأن – على السياق المتقدم – لا يسوغ به اطراحه، إذ لا يصح أطراحه بخلو الأوراق مما يفيد على وجه قاطع أن المتهم كان يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي لأن إبداءه يتضمن الدعوة إلى تحقيقه، مما يصم الحكم – فى الرد على هذا الدفاع بالقصور فى التسبيب والفساد فى الاستدلال.