قبل تشييع جنازة جمال عبد الناصر، بيوم واحد، طلب أنور السادات، وكان يقوم بأعمال رئيس الجمهورية من الكاتب الصحفى، محمد حسنين هيكل، أن يشترك فى اجتماع مجلس الأمن القومى المصرى، وكان هيكل عضوا فيه، بوصفه وزيرا للإرشاد القومى، وانعقد الاجتماع يوم 30 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1970، حسبما يذكر هيكل فى كتابه «وقائع تحقيق سياسى أمام المدعى الاشتراكى».
يذكر «هيكل» أن رأى السادات وكان على حق فيه، أن هناك وفودا كثيرة قادمة للعزاء، وهؤلاء القادمون سوف ينتهزون الفرصة لكى يتكلموا فى الأوضاع خصوصا بالنسبة لنوايانا فى موضوع وقف إطلاق النار.. ويضيف هيكل: «كان هناك وفد سوفيتى قادم للعزاء برئاسة «اليكسى كوسيجين» رئيس الوزراء، ووفد أمريكى برئاسة «البوت ريتشاردسون» وزير الخدمات الاجتماعية وهو وقتها كان من أقرب المقربين إلى الرئيس الأمريكى نيكسون، وكان هناك وفد بريطانى برئاسة «دوجلاس هيوم» وزير الخارجية البريطانية، وكان هناك السكرتير العام للأمم المتحدة، وهناك كثيرون غير هؤلاء من ساسة العالم».
يتذكر هيكل: «لم يحضر الرئيس السادات اجتماعنا لأنه كان مشغولا بترتيبات الجنازة فى اليوم التالى «أول أكتوبر»، واجتمعنا فى مكتب وزير الحربية الفريق أول محمد فوزى لمناقشة الموضوع، وكان عددنا فيما أذكر قرابة عشرة أشخاص بينهم وزير الحربية بالطبع، ووزير الخارجية محمود رياض، ورئيس المخابرات العامة حافظ إسماعيل، ووزير الداخلية شعراوى جمعة، ووزير الدولة أمين هويدى، ووزير شؤون رئاسة الجمهورية سامى شرف، ورئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق محمد أحمد صادق، ومدير المخابرات العسكرية».
ويضيف هيكل: «كان علينا جميعا أن نضع تقدير موقف يكون تحت تصرف الرئيس السادات فى محادثاته مع رؤساء الوفود الزائرة».. يذكر حافظ إسماعيل فى مذكراته «أمن مصر القومى فى عصر التحديات»: «أجمع الحاضرون على التوصية بمد فترة وقف إطلاق النار بعد 5 نوفمبر 1970، لمدة 3 أشهر أخرى تنتهى فى 5 فبراير 1971، وهكذا أفسح المجال أمام القيادة الجديدة لكى تتفرغ للمهام الداخلية والخارجية العاجلة».
يسجل «إسماعيل» مشاعره فى هذه اللحظات، قائلا: «لم أشعر بالقرب من عبدالناصر خلال ثمانية عشر عاما، كما شعرت خلال المائة يوم الأخيرة التى أمضيتها منذ قابلته فى منتصف يونيو 1970، عشت معه يوما بيوم، أكتب له، وأحدثه هاتفيا، أو أتلقى توجيهات عبر مساعديه، كان عبدالناصر فى هذه الأيام، رغم مرضه، قادرا على أن يملأ الدنيا من حولنا، وكان إيقاع الحياة معه سريعا لا يفتر، متصلا دون توقف، وكان علينا أن نستجيب لكل إشارة منه، لكل توجيه يصدره، أورغبة يعرب عنها، لقد كان يحمل المسؤولية، التى طالبناه بأن يتحملها منذ ثلاثة أعوام، كل المسؤولية، كان يخوض المعركة التى وهب نفسه لها، ووقته وجهده، حتى لتبدو الساعات أحيانا قاصرة عن أن تتسع لإرضاء ما يأمل أن يحققه.
رأيته فى منتصف أغسطس فى استراحته بالمعمورة حيث أصدر لنا توجيهاته للتصدى للقوى المعارضة للسياسة المصرية، وبدا لى يومها منهكا حتى أننى لم أملك إلا أن أهمس له فى نهاية المؤتمر قائلا: «أرجو يا سيادة الرئيس أن ترعى صحتك فليس هناك من بعدك من يستطيع أن يقودنا إلى بر الأمان، وخلال أيام مؤتمر القمة العربى «21 سبتمبر إلى 27 سبتمبر 1970 لوقف القتال بين الجيش الأردنى والفدائيين الفلسطينيين» رأيته فى جناحه الخاص، يعتصره الإرهاق والتعب حتى لا تكاد كلماته لمن معه تتجاوز الهمس، وعندما دعانى للعشاء لاحظت كيف كان يتحرك فى بطء، وكيف كان يأكل بمعاناة، ومع ذلك ظل طيلة المؤتمر شامخ القامة، مرتفع الرأس، محافظا على توقد الروح، وقدرات المبادرة والإبداع، وصفاء الذهن والفكر والمهارة السياسية التى قاد بها سفينة المؤتمر وسط أنواء المؤامرات والتهديد والابتزاز، وفى النهاية فقد أبى أن يموت قبل أن يرتب «بيته» والبيت العربى، أو أن يرحل قبل أن يعيد الاستقرار ويدعم الصلابة، فيخلف لمن يجىء بعده حرية المناورة السياسية، أوالعمل العسكرى إن أرغمته الظروف على أن يشن حربا لتحرير البلاد.
رحل عبدالناصر ومصر على منعطف خطير ودقيق، بينما كان يعد لكى يتابع السير على الطريق، سلما أو حربا، ففى خلال ثلاثة أعوام استطاع أن يحقق التوازن والاستقرار، فأعاد بناء القوات المسلحة وقادها خلال معارك الاستنزاف، ثم أعد لوقف النار الأخير لكى يتيح لها فرصة دعم سيطرتها على منطقة قناة السويس، وتمهيدا لمعركة كان يعد البلاد لها بأن تجهز خططها وتدبر احتياجاتها وتنظم قيادتها».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة