"فخور بما حققته إدارة ترامب".. هكذا قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في كلمته أمام كبار أعضاء الكونجرس من الحزب الجمهورى، ليضع نفسه بين الفريق المؤيد للرئيس المنتهية ولايته، بعد تخلى قطاع كبير من رجال الحزب عنه، سواء قبل المعترك الانتخابى الذى شهدته الولايات المتحدة في نوفمبر الماضى، أو بعد ذلك، إثر رفض الرئيس الاعتراف بالهزيمة أمام خصمه الديمقراطى جو بايدن، إلى الحد الذى طعن فيه في نزاهة "العرس الديمقراطى" الأمريكي، في سابقة ربما لم تشهدها الولايات المتحدة في تاريخها، مما أسفر عن حالة من الغضب الشعبى، لدى قطاع كبير من المواطنين، ربما ترجمته الاحتجاجات التي أحاطت بالكونجرس إبان التصديق على فوز بايدن برئاسة الولايات المتحدة، وما لحقها من اقتحامات وعنف وفوضى تبدو جديدة تماما على المشهد الأمريكي.
دعم بومبيو للرئيس ترامب يمثل انعكاسا صريحا لحالة الانقسام الشديد الذى تشهده أروقة الحزب الجمهورى، جراء حالة التنافر الذى خلقتها مواقف سيد البيت الأبيض، خلال السنوات الأربعة الماضية، سواء على مستوى السياسات العامة، والتي شهدت في الكثير منها انقلابا صريحا على ثوابت الداخل الحزبى، أو العامة المتعلقة بالتوجهات الأمريكية في الداخل أو الخارج من ناحية، أو علاقته المتوترة بالقطاع الأكبر من القيادات التقليدية للحزب، وخصوصا من أقطاب تيار "الصقور"، وهو ما بدا واضحا في موقفه الحاد تجاه العديد منهم، وعلى رأسهم جون ماكين، والذى يرى البعض أن العداء الشديد بينهما كان سببا في تصويت ولاية أريزونا لبايدن، في سابقة لم تحدث منذ حقبة بيل كلينتون، أن تدعم الولاية مرشحا ديمقراطيا، بالإضافة إلى انقلابه على مستشاره للأمن القومى جون بولتون، والذى عزله من منصبه بطريقة يراها البعض مهينة.
انقلابات ترامب.. "صقورية" بومبيو دفعت إلى تهميشه
انقلابات ترامب على "صقور" الجمهوريين لم تقتصر على الشخصيات المذكورة، وإنما طالت مايك بومبيو نفسه، والذى يشغل منصب وزير الخارجية منذ مارس 2018، حيث جاء إلى منصبه، جنبا إلى جنب، مع جون بولتون، في إطار التمهيد لخطوة الانسحاب من الاتفاقية النووية الإيرانية، والتي عقدها الرئيس السابق باراك أوباما مع طهران في يوليو 2015، وهو ما حدث فعليا في مايو 2018، خاصة أنهما معروفان بتوجهاتهما المناوئة للدولة الفارسية، وبالتالي ارتبط دورهما بالموقف الأمريكي من إيران، إلا أن التوافق بينهما من جانب، وبين سيد البيت الأبيض، من جانب أخر، كان غائبا في العديد من القضايا الأخرى، وعلى رأسها التقارب الأمريكي مع كوريا الشمالية، وكذلك الموقف من الحلفاء في أوروبا الغربية، والتي تعد بمثابة "ثوابت" في السياسة الأمريكية.
وهنا يمكننا تفسير مواقف البيت الأبيض بتحييد وزير الخارجية الأمريكي في العديد من القضايا الدولية، والتي يعد مسئولا عن إدارتها بصفة مباشرة، وهو ما بدا – على سبيل المثال – في قبول ترامب لمطلب زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون باستبعاد بومبيو من المفاوضات بين البلدين، خاصة مع تصريحات الأخير التي بدت معادية لبيونج يانج، وهو الموقف نفسه تجاه بولتون، الذى وصفه ترامب في ذروة الخلاف بينهما بـ"داعية" الحرب، في انعكاس صريح للتنافر الفج في المواقف تجاه التعامل مع تلك القضية، بالإضافة إلى خلافهما الأساسى تجاه خطوات أمريكية تاريخية، آثرت فيها واشنطن مبدأ التدخل العسكرى، كما هو الحال في العراق، وأفغانستان، يراها الرئيس المنتهية ولايته سببا في العديد من الخسائر السياسية والاقتصادية، ناهيك عما تسببت فيه من مقتل آلاف الجنود، في ساحات المعارك هناك.
مهادنة الرئيس.. بومبيو "الوحش" يقبل التهميش حفاظا على منصبه
تجلى الخلاف الرئيسى بين بومبيو وبولتون بوضوح في ردود الأفعال التي تبناها كلا منهما في التعامل مع رؤى ترامب، حيث نجح وزير الخارجية في مهادنة الرئيس، وبالتالي تفادى انقلاباته وتقلباته، ليحتفظ بمنصبه، رغم التدخل في اختصاصاته من قبل عناصر أخرى في الإدارة، منها على سبيل المثال نائب الرئيس مايك بنس، والذى قاد وفد أمريكا في مؤتمر وارسو للحشد الدولى ضد إيران في فبراير 2019، وكذلك قيادته للملف الفنزويلي، بالإضافة إلى دوره في مسألة كوريا الشمالية، والتي لعبت فيها ابنة الرئيس إيفانكا دورا بدا واضحا خلال الإشارة إليها في كلمة ترامب أمام الجنود الأمريكيين خلال زيارته إلى كوريا الجنوبية، والتي قام خلالها بلقاء زعيم كوريا الشمالية، وعبر معه الحدود بين الكوريتين، في خطوة تاريخية باعتباره أول رئيس أمريكى تطأ قدماه الأراضى الكورية الشمالية، حيث وصفها، وبجوارها بومبيو، بـ"الجميلة والوحش".
ترامب وبومبيو وبينهما إيفانكا
ولكن بالرغم من تهميش الدور الذى لعبه بومبيو، بل والمؤسسة الدبلوماسية الأمريكية الرسمية برمتها، خلال إدارة ترامب، يأتي موقف بومبيو داعما للرئيس المنتهية ولايته، ليس فقط قبل الانتخابات، ولكن أيضا بعد ذلك في معركته الخاسرة للانقلاب على النتائج التي آلت إليها الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهو ما امتد كذلك بعد الضغوط الكبيرة التي يواجهها ترامب بعد الاحتجاجات الأخيرة، التي أحاطت بمبنى الكونجرس أثناء التصديق على فوز بايدن، والتي انتهت باقتحامه في مشهد غير مسبوق في واشنطن، في الوقت الذى اتجه عدد كبير من أعضاء الإدارة إلى الاستقالة احتجاجا على ما اعتبروه تحريضا من البيت الأبيض على الفوضى، وهو ما يثير التساؤلات حول مآلات موقف بومبيو، خاصة أنه يبقى أحد أبرز القيادات في الحزب الجمهورى فى المرحلة الراهنة.
انقسام الجمهوريين.. بومبيو يراهن على جناح ترامب بالحزب الجمهورى
موقف بومبيو يمثل اعترافا ضمنيا بحقيقة مفادها ليس فقط أن الانقسام بات مسيطرا على الحزب الجمهورى، وإنما أيضا أن جناحا جديدا ربما سيلعب دور القيادة داخل الحزب في المرحلة المقبلة، يحمل نفس شعارات ورؤى الرئيس المنتهية ولايته، في ظل شعبيته الكبيرة التي يحظى بها في الشارع والتي بدت في الأعداد الكبيرة التي حصل عليها إبان الانتخابات، والتي تجاوزت 75 مليون صوت، بالإضافة إلى الاحتجاجات الكبيرة التي شهدتها الشوارع الأمريكية في الأسابيع الماضية، لتضفى انطباعا أن كتلة شعبية كبيرة تبدو مؤيدة للرجل رغم خروجه المرتقب من السلطة في 20 يناير الجارى.
وهنا يصبح رهان بومبيو على شعبية الرئيس ترامب قائما، من أجل الاحتفاظ بوجوده المؤثر داخل الحزب، في ظل العديد من المعطيات التي ربما تلامس معها خلال وجوده في منصبه في السنوات الماضية، وأبرزها حالة النفور الشعبى تجاه رؤى "الصقور" التقليديين، خاصة فيما يتعلق بسياسات التدخل العسكرى المباشر لفرض الإرادة الأمريكية في العديد من مناطق العالم، بالإضافة النجاح الكبير الذى حققه الخطاب الشعبوى في السنوات الماضية بين فئات كبيرة من الأمريكيين.