تحدث الدكتور طه حسين، تليفونيا، مع عبدالخالق حسونة، أمين عام جامعة الدول العربية، يبلغه بأنه تقرر عقد اجتماع اللجنة الثقافية للجامعة التى يرأسها فى مدينة جدة بالسعودية، وسوف يكون برعاية الأمير فهد بن عبدالعزيز، وزير المعارف «ملك السعودية فيما بعد»، حسبما أتى فى كتاب «ما بعد الأيام» للدكتور محمد حسن الزيات، زوج ابنة طه حسين، ووزير خارجية مصر أثناء حرب أكتوبر 1973.
أكد «حسونة»: «الاجتماع فى السعودية فى حد ذاته يحقق هدفا من أهداف التعاون الثقافى العربى»، رد طه حسين: «شوقى لزيارة الحرمين كبير، وما زلت أعيش فى تلك الأماكن المقدسة منذ أخذت فى إملاء كتاب «على هامش السيرة»، وهو الكتاب الذى قدمه عام 1933، ويعد سردا مبسطا للسيرة النبوية، وبقيت أماكن هذه السيرة حاضرة فى وجدانه حتى كانت هذه الزيارة.
يذكر «الزيات»، أن «حسونة» سأل طه حسين عما ذا كان سيسافر بالطائرة، فرد: «لا، لقد طلبت أن يبحثوا إمكانية سفرى بالمركب، فأنت تعرف يا باشا أننى لا أركب الطائرة أبدا، تعرف أن الشاعر القديم كان يقول: لا أركب الماء، إنى/ أخاف منه المعاطب/ طين أنا وهو ماء/ والطين فى الماء ذائب»، ويكفى إذن أن نركب الماء، لا ضرورة لركوب الهواء، يضيف «الزيات»، أن طه حسين أبلغ «حسونة» أن الأستاذين أمين الخولى، ومحمد فتحى، معه فى الزيارة، ويصطحبه سكرتيره فريد شحاتة، غير أن زوجته «سوزان»، تذكر فى مذكراتها «معك» ترجمة، بدرالدين عردوكى، مراجعة، محمود أمين العالم: «فريد لم يستطع أن يرافقه فى هذه الرحلة لكونه مسيحيا»، تضيف: «لم أكن أستطيع بالطبع مرافقته إلى جدة، واعترف بفضل أمين الخولى الذى لم يتركه خلال هذه الرحلة، وسهر على راحته بأخوّة».
تؤكد سوزان: «كانت فرحة عميقة بالنسبة إليه أن يعيش قليلا فى الجزيرة العربية، فى أماكن عرفها فكره وقلبه وأحبها حبا قويا، ووصف لى الاستقبال الحماسى الذى استُقبل به، فما إن نزل من المركب حتى استقبلته الهتافات، تمتزج بها هتافات العمال المصريين الذين كانوا على ظهر المركب».
تواصل الاحتفاء رسميا وشعبيا طوال أيام الزيارة التى استمرت 19 يوما، «وكأن لا يشغل البلاد على مدى الـ19 يوما سوى هذا الحدث»، حسبما يشير كتاب «طه حسين فى المملكة العربية السعودية»، للكاتب السعودى، محمد عبد الرازق القشعمى، وفى مقال له بعنوان «طه حسين فى السعودية بين المتن والهامش»، بجريدة «الشرق الأوسط 21 يناير 2018»، يعيد الدكتور حسن النعمى، أسباب هذا الاحتفاء، قائلا: «ما من شكٍ أنَّ طه حسين قدم فى زيارة رسمية فى 15 يناير، مثل هذا اليوم، 1955، بوصفه رئيسا للجنة الثقافية للجامعة العربية، غير أنَّ اسمه لم يكن عاديا منذ ذلك الحين وحتى الآن، فقد ارتبط بثقافة التجديد، والتنوير، وصناعة مستقبل الثقافة، لذلك أخذت زيارته زخما ثقافيا استثنائيا، بحجم حضوره فى الثقافة العربية المعاصرة، ومن المؤكد أنَّ رئيس اللجنة الثقافية لو كان موظفا كبيرا أو دبلوماسيا رفيعا لما وجدت زيارته أى عناية من قبل المثقفين والأدباء، لقد جاء بصفة رسمية، لكنَّ حضوره كان أبعد من ذلك، كان ثقافيا بامتيازٍ، فالزيارة الرسمية اكتسبت قيمتها الثقافية والتاريخية من شخصيته الفريدة، ومن هنا صحَّ أن نقول إنَّ متن الزيارة غير مهمٍ فى ذاته ثقافيا ولا تاريخيا، بل المهم هو هامشها الذى قدح زناده تراكمٌ من العطاء الثقافى، والجدل الفكرى، الذى أشعل فتيله، منذ أن كسر نمطية التقليد فى فكرنا العربى المعاصر، فكان كتابه «فى الشعر الجاهلى» نقطة انطلاقٍ لتحدى نمطية التلقى فى الفكر العربى».
فى متن الزيارة تحدث طه حسين، أمام اجتماع اللجنة الثقافية، («أصبحت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم»، وجاء فيها حسب «الزيات»: «هؤلاء العرب الذين خرجوا من جزيرتهم هذه، وليست لهم فى الحضارة سابقة، ولا حظ لهم من العلم إلا ما علمهم الله فى كتابه الكريم، خرجوا فوجدوا حضارات كثيرة قوية بعيدة الأثر فى الحياة الإنسانية، متنوعة مختلفة الألوان والفنون والعلوم، فلم يمض عليهم إلا قرن واحد حتى كانوا قد أساغوا كل هذه الثقافات، ثم لم يكتفوا بإساغتها وتمثلها، وإنما أخذوا يضيفون إليها ويزيدون فيها ويضيفون إلى كنوز الإنسانية فى العلم والمعرفة كنوزا، ثم لم يكفهم هذا حتى أشركوا فيه الإنسانية كلها، ثم لم يستأثروا لأنفسهم منها بشىء، وإنما أشركوا الأمم التى كانت تستظل بظلهم فيه، اتخذوهم أول الأمر معلمين، ثم أصبحوا لهم أساتذة ومعلمين، ثم أصبحوا لهم أخوة يدعونهم إلى الخير ويستعينون بهم على الحق».
بقى الأهم وهو أحداث «هامش» الزيارة، فماذا جرى فيها؟