كأنه كان يعرف أنه لقاء الوداع ، المشهد الأخير الذى صاغه القدر صياغة تليق بمبدع قضى عمره يترجم مشاعر البشر، ومفكر يحلل كل ماحوله فيصف بدقة كل فئات وصفات وكلمات وأحاسيس المصريين، يعرف أعداء مصر ويكشفهم قبل الجميع ولا ينخدع بأقنعتهم المزيفة كما انخدع غيره ، يطلق رصاصات قلمه بكلمات صادقة تعرف هدفها وتصل إلى قلوب وعقول الجمهور فيحفظها عن ظهر قلب حتى وإن لم يدرك معناها فى حينها.
انطلقت دمعة من عينيه وهو يرى تقدير الجميع ودموع زملائه وتلامذته أثناء تكريمه، كانت دموع حب حقيقية وقفوا جميعاً فى استقبال الأستاذ وهو يخطو خطواته بصعوبة على المسرح مستندا على عصاه كما استند طوال حياته على قلمه، وحين رأى طوفان المحبة الجارفة انطلقت دمعة من عينيه وحمد الله أنه عاش حتى يرى هذه اللحظة التى حصد خلالها ثمارعمله وجهده وجهاده ، وأدرك أنه المشهد الأخير الذى يليق به لينهى به حياته وكأنها فيلم عن محارب مجاهد عانى وواجه طوال الأحداث و لابد أن ينتصر فى مشهد النهاية.
هكذا كانت لحظة تكريم الكاتب المجاهد المبدع وحيد حامد فى مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته ال 42 قبل أيام من رحيله، هكذا شعر حينها وأيقن أنها لحظة الوداع التى تليق بمجاهد عاش حياته للفن والقلم وحارب الإرهاب وطيور الظلام وحيداً قبل سنوات طويلة من كشف حقيقتهم ، وفى الوقت الذى انخدع فيهم الجميع.
لا أحد يستطيع أن يصف مشاعر وحيد حامد فى هذه اللحظة التى شعر أنه يحصد فيها ثمار جهده وجهاده تقديراً وحباً وعرفاناً من الجميع بعد مسيرة حافلة عمل خلالها على تنوير العقول ودخل خلالها كل القلوب وأصبح فرداً من أفراد كل أسرة مصرية فى كل البيوت.
جعل الكاتب الكبير وحيد حامد كل مواطن يحفظ كلماته وعباراته الخالدة التى صاغها فى العديد من أعماله ويدرك معانيها، نظرة إلى تلك الأعمال لتعرف أنه الكاتب الوحيد الذى شعر بالمواطن "المنسى" ووصف مشاعر" البرئ" ، "والمسجل خطر" وفهم نفسية " معالى الوزير"، وعرف كيف يجمع بين الكتابة عن " الراقصة والسياسى" ، ويحترف" اللعب مع الكبار" ويعمل على "كشف المستور"، وفضح "الجماعة" وكسر أجنحة"طيور الظلام"، وحرص على أن يوقظنا من "النوم فى العسل" ويعبر عن كل أفراد "العائلة"، ورغم قوة القضايا التى كتب عنها وحملها وحيد حامد ، استطاع أيضا أن يضحكنا حتى على همومنا "علشان الصورة تطلع حلوة" فنقل من عبارات الناس وألامهم جملاً حوارية عاشت للأبد .
وطوال حياته لم يهتز قلم وحيد حامد أو يرتعش أو يخاف حتى فى أوج سيطرة وحكم الجماعة الإرهابية، ظل يقاوم ويكافح ويجاهد بقلمه وكلماته التى تشبه" حد السيف" ثابتاً قوياً مؤمناً بقضيته ومبادئه، لا يخش الموت لأنه يؤمن بأن "الدنيا على جناح يمامة" وأن حكم الإخوان لن يدوم وأن الشعب سينتصر ، وأن الجماعة لن تكون سوى "غريب فى بيت" وسيأتى اليوم الذى ترحل فيه.
وهكذا رحل الأستاذ والمبدع والمجاهد وحيد حامد بعد أن حقق حلمه وانتصر ولم يعد وحيدا فى مواجهة الجماعة وأفكارها، وبعد أيام من ظهوره الأخير أثناء تكريمه فى مهرجان القاهرة السينمائى شامخاً حامداً حب وتقدير الجميع.
رحل الجسد الفانى ولكن وحيد حامد أبدا لم ولن يرحل ، عاش وسيظل باقياً إلى الأبد ، بما سطره قلمه وبالشخوص التى التقط ملامحها من الواقع و رسمها على الورق ونفخ فيها من روحه فأصبحت على الشاشات شخصيات مصرية من لحم ودم نراها ونتعامل معها ونحبها ونكرهها ونحفظ عباراتها ونفهم منها ما يدور حولنا.
كان وحيد حامد راصداً جيداً لحال المجتمع المصرى بكل فئاته وتغيراته محللاً واعياً صادقاً لكل أوجاعه ونقاط ضعفه ومواطن خطره، عاشقاً للناس والشوارع والبيوت والعائلات يعرف ويدرس أدق التفاصيل ويستطيع من خلالها أن يتنبأ بالمستقبل ويرى مالايراه غيره، لهذا تنبأت أعماله بالكثير من الأحداث التى حدثت بالفعل بعد عرض هذه الأعمال بسنوات.
شعر فى وقت مبكر بخطر الجماعات الإرهابية التى تعمل تحت ستار الدين وكشفها وحذر منها فى العديد من أعماله، قبل أن ينتبه أحد إلى هذا الخطر الذى يهدد الوطن وفى الوقت الذى ارتدت فيها هذه الجماعات ثياب الفضيلة وانخدع فيها الكثيرون، كان يعرف أن حياته قد تكون ثمناً لما يكتبه ، فى وقت كانت هذه الجماعات تغتال كل من ينطق بكلمة ليحذر من خطرها ولكنه لم يهتم أو يهتز، كان صاحب رسالة ومبدأ على استعداد أن يضحى فى سبيله بحياته إذا لزم الأمر، وحذر من هذا الخطر فى العديد من أعماله ومنها مسلسل العائلة، والجماعة ، وأفلام طيور الظلام، والإرهاب والكباب، ودم الغزال وغيرها.
كان وحيد حامد دائما صوتاً للبسطاء يكتب عنهم بصدق ويعبر عما يعانونه ويرى مالا يراه غيره ويحذر من الخطر قبل الجميع، فكتب أصدق وأبدع الأعمال الى عبرت عن المواطن البسيط ومنها أفلام : البرئ والمنسى والإرهاب والكباب واللعب مع الكبار ، والهلفوت، واضحك الصورة تطلع حلوة ، وكشف مايدور فى عقول ودوائر الكبار ، فكتب : معالى الوزير، والراقصة والسياسى، وكشف المستور، وملف سامية شعراوى وأخر الرجال المحترمين وغيرها.
فى كل هذا لم يكن يحرك وحيد حامد سوى وطنيته وحبه لمصر وشعبها، لم يكن مجرد كاتب كان مؤرخاً ومحللاً ومستشرفاً للمستقبل وعاشقاً لتراب الوطن ومهموماً بالمواطن، لذلك عاش وسيعيش دائماً بأعماله الخالدة فى وجدان المصريين حتى وإن رحل جسده ، فاليوم عاش وحيد حامد للأبد ولن يموت.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة