العودة إلى اتفاقية باريس المناخية، كان القرار الأول لجو بايدن، عقب دخوله البيت الأبيض، لاغيا قرار سلفه "الثائر" على دعوات التحرك لمجابهة ظاهرة التغيرات المناخية، دونالد ترامب، وهو الموقف الذى أثار قطاعا كبيرا من النشطاء، وعلى رأسهم المراهقة السويدية جريتا ثونبرج، والتي دخلت في معارك كلامية عديدة أمام الرئيس الأمريكي السابق، وكذلك دول الغرب الأوروبى، باعتباره ذريعة قوية لانتهاك الالتزامات التي تعهد بها العالم، فيما يتعلق بتقليص الانبعاثات الكربونية، مما يمثل تهديدا صارخا لمستقبل العالم، فى ظل تداعيات تبدو كارثية، قد تؤدى إليها الظاهرة.
القرار يبدو في ظاهره "مصالحة" أمريكية مع البيئة التي كان ترامب معاد لها منذ يومه الأول في البيت الأبيض، كما يمثل رسالة للأمريكيين والعالم، أن الولايات المتحدة عادت إلى "رشدها" البيئي" بعد سنوات يراها قطاع كبير من المختصين بمثابة "إهمال" غير مسئول لمخاطر غير معلومة المدى، مما يساهم بصورة أو بأخرى في تحسين صورة واشنطن، باعتبارها "قائد" العالم، وبالتالي المسئول الأول عن حمايته من التهديدات المحيطة به، بعدما تجاهلت هذا الدور، في الكثير من المواقف، ربما أبرزها الفشل في احتواء فيروس كورونا وتداعياته، تحت شعار "أمريكا أولا"، والذى رفعه ترامب منذ حملته الانتخابية الأولى في 2016، ليكون ذريعة لسياسات أمريكية أحادية، تعطى الأولوية القصوى للداخل على حساب المحيطين الدولى والإقليمى.
إلا أنه بعيدا عن ظاهرة التغيرات المناخية، ومسألة الدور العالمى لأمريكا، يبقى القرار في جوهرة سلسلة من المصالحات، ربما لا تقتصر على البيئة، وإنما تمتد إلى محاولة إصلاح التحالفات التاريخية لواشنطن، مع دول أوروبا الغربية، والتي ساءت العلاقة معها بصورة غير مسبوقة خلال حقبة ترامب، على خلفية قرارات الرسوم الجمركية، ومحاولات تغيير استراتيجية الناتو، ليصبح قرار العودة إلى اتفاقية باريس، والذى تصدر حقبة بايدن، هو بمثابة مصالحة أخرى لفرنسا ومن ورائها أوروبا الموحدة، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان أكثر زعماء العالم غضبا تجاه قرار ترامب بالانسحاب منها.
الغضب الفرنسي آنذاك ترجمه ماكرون في تصريحات أثارت جدلا دوليا كبيرا، عندما تحدث صراحة عما أسماه "الموت السريرى" لحلف الناتو، وهو ما يعد محاولة لرد الصاع إلى واشنطن، جراء انسحابها من اتفاقية تحمل اسم باريس، حيث ان ارتباط الاتفاقية باسم العاصمة الفرنسية يحمل مدلولا رمزيا لأهمية الدور الذى تلعبه فرنسا على الساحة الدولية، خاصة وأن التشكيك في مستقبل الناتو، يمثل هو الأخر بعدا تاريخيا ورمزيا، للقيادة الأمريكية لدول المعسكر الغربى، إبان الحرب الباردة، وهو الأمر الذى امتد بعد نهايتها، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى، لتصبح واشنطن القائد الأوحد للعالم بمباركة أوروبا الغربية.
ولعل خطوة بايدن بالعودة للاتفاقية تحمل تداعيات سياسية كبيرة، ربما أبرزها تحقيق حلم ماكرون بقيادة أوروبا، في ظل معطيات أوروبية جديدة، أبرزها الفراغ المحتمل بعد غياب منافسته الألمانية أنجيلا ميركل، عن الساحة السياسية، في ظل عدم ترشحها للانتخابات القادمة، وبالتالي يمكننا تفسير العودة الأمريكية للاتفاقية بأنها بمثابة مباركة أمريكية محتملة لدور فرنسى أكبر على الساحة الأوروبية، خاصة مع التباعد بين إدارة بايدن والحكومة البريطانية برئاسة بوريس جونسون، والذى يعد أبرز الخاسرين جراء خروج ترامب من البيت الأبيض.
يبدو أن عود بايدن للاتفاق المناخى، ليس مجرد مصالحة أمريكية مع البيئة، وإنما في حقيقته يمثل "حزمة" من المصالحات، من شأنها إعادة الاعتبار لفرنسا، ودعاة أوروبا الموحدة، بالإضافة إلى كونه استرضاء لنشطاء البيئة، حول العالم، وإعادة واشنطن إلى دور الراعى الرسمي للأمن العالمى، عبر قيادة الجهود التي من شأنها محاربة التهديدات التي قد تواجه العالم في المستقبل.