نلقى الضوء معا على كتاب "مشاهد الممالك" لـ إدوار إلياس، والكتاب قديم يعود إلى عام 1910، ومن هنا كان باب القراءة له، كيف كان العالم فى هذه الفترة، مثلا "كيف كانت النمسا؟.
يقول الكتاب تحت عنوان ضواحى فيينا:
لضواحى فيينَّا شهرة تحاكى شهرة الضواحى التابعة لأكثر الضواحى المشهورة، ولا تزيد عنها فى الأهمية غير ضواحى باريز البهيَّة، من ذلك جبل كاهلبرج قصدناه صباح يوم فى باخرة تقوم من ترعة الدانوب، وكان الناس يومئذ جماهير تتسابق إلى ذلك الموضع فسِرْنا فى الباخرة هذه حتى بلغنا قرية نسدورف، وكان قطار سكَّة الحديد ينتظر القادمين إليها لينقلَهم إلى أعلى الجبل فى سكة كانت تختلف ما بين صعود ونزول وانحناء يمنة أو يسرة ودخول وخروج بين غياض الشجر الباسق ومروج العشب النضر، وأغرب من هذا صعود القطار فى أكواع ملتفَّة إلى قمة ذلك الجبل والمناظر تتبدَّل من حين إلى حين فتتبدَّى الطبيعة بكلِّ جمالها الساحر للقاعد فى الرتل، وهو يتقدَّم صعدًا إلى تلك القنة ومن دونه الحِراج والبقاع والأودية فيُحْدِثُ جمال ذلك المنظر فتنة فى القلوب ويحيى فى النفوس بهجة لا يُوصف لها مقدار، وعلى مثل هذا بلغنا غاية المتفرِّجين، ودُرْنا بين الطرق المفروشة بالرمل نرى هنا مزارع بهيَّة وهنا منازل مشيدة مطلية، وهنا حانات تجتمع الناس فيها والنفوس منهم رَضيَّة، وهنا مطاعم يتناولون فيها الألوان الفاخرة على صوت الألحان الشجيَّة، والكل ناظرون إلى عاصمة النمسا وما يليها معجبون بما أوجده التحسين الصناعى فوق تلك البدائع الطبيعية.
ومن هذا القبيل قصر شونبرن، وهو مصيف الإمبراطور بَنَتْه الملكة ماريا تريزا وأقام فيه نابوليون مدة وجوده فى هذه العاصمة، ومن مؤلمات الأحكام التى لا تُرَدُّ أن ابن هذا الفاتح العظيم من امرأته الثانية، وهى ابنة إمبراطور النمسا، مات فى الغرفة التى كان والده ينام فيها، وهى من غرف هذا القصر الفخيم، قصدتُ هذا القصر مع جماعة كثيرة من السائحين، فأتانا خادمه وأدخلنا بعض جوانبه، ولا حاجة إلى القوم إنه آية فى الحُسْنِ والزخارف، وإن رياشه وبناءه وبقية ما فيه يليق بقيصر عظيم وملك بلاد كبرى، وفى جملة قاعاته واحدة تُعْرَف باسم القاعة الصينية، كل رياشها حرير أسود مُزَرْكَش بالقصب، وخشبها من اللك الأسود المصقول، وقاعة واسعة الجوانب للاستقبال والولائم الكبرى تضمُّ فوق ١٥٠٠ نفس، وفى القصر مكتبة خاصة بالإمبراطور وكنيسة صغيرة له ولأعضاء عائلته، وملهى صغير لمن ذكرنا أيضًا، ومواضيع أخرى فائقة الإتقان كثيرة الجمال، ويلحق بهذا القصر حديقة أو هى مجموع غابات وحدائق كانت فيما مرَّ من الأيام حراجًا يصطاد الأمراء فيها الأيل والأرانب، فمشيت فى طريق بهذه الحديقة يحفُّ به جداران أو هما بالحقيقة صفَّان من الشجر تعرَّشت أغصانه، والتفَّت عروقه وعُولجت بالمقراض حتى صارت مثل السور الأخضر طوله ٣٢٢ مترًا، وفى آخره بِركة من الماء بديعة ووراؤها أكمة تغشاها الأعشاب السندسية، وفى أعلاه كشك بديع الصنع من الرخام النقي، وما زلت أسرح فى هاتيك الطرقات البهيَّة حتى بلغت معرض الزهر والحيوان، فأما الزهر فإنه جُمِعَ من أطراف الأرض وغُرِس هنا فى حقول بديعة الترتيب، وبعضه لا ينمو إلا فى الأماكن الحارَّة، فهم غرسوه داخل بيوت من الزجاج والنار تُوقد من تحت أرضه حتى يظلَّ على النماء، فترى من أشكال النبات فى تلك الحديقة ما يعجز عن وصفه قلم المتغزِّل بمحاسن الطبيعة، وأمَّا الحيوانات فبينها فى هذا الموضع كثير من كل غريب الطبع والشكل جاءوا به من أقصى الأقطار، ولكن معارض باريز ولندن للحيوانات أشهر من هذا المعرض وأكبر، وجملة القول إن هذه الحديقة من أعظم متنزَّهات فيينَّا يقصدها الناس لفخامة منظرها وحسن هوائها. وأما الذين يريدون اللهو والطرب فعليهم بحديقة براتر التى ذكرناها.
ومن هذا القبيل فيسلاو، وهى مجموع عمائر لأهل الترف والأكابر واقعة على جبل ارتفاعه ٨٠٠ قدم، ولها شهرة بالخمرة اللذيذة، سِرْنا إليها بالقطار انتهى بنا إلى سفح الجبل، ومنه قمنا فى عربة سارت صعدًا إلى رأس الموضع، وفى تلك الجهات حمَّامات معدنية تفيد فى تقوية الأعصاب والماء فيها بارد جدًّا يُرَشُّ على الجسم من كلِّ الجوانب رشًّا شديدًا يكاد الرجل أن يقع من وقعه، وقد رأيت هنالك رجلًا رومانيًّا من بخارست، قال لى إنه جاء تلك الحمَّامات مُقْعَدًا يسير على العُكَّاز فتقوَّت أعصابه حتى صار يمشى بدونها، وبعد أن أقمت مدة فى ذلك الموضع البديع عُدْتُ إلى فيينَّا بطريق بادن وهى بلدة مشهورة بحمَّاماتها المعدنية تفيد فى الأمراض العصبية وتشفى من داء الروماتزم، فالناس يأتونها من كلِّ صوب بعيد للاستحمام فى حماماتها الكثيرة، وأكثرهم يأتونها عن طريق فيينَّا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة