فى الصباح ذهب إلى عمله على غير هدى، فقط، لأن لديه اجتماعات مملة لا يطيق عليها صبرا، لكنه كان عليه أن يحضرها.. جلس أمام الكمبيوتر، يكتب أشياء كالتى يكتبها كل صباح، لا يعرف ما عليه فعله، سوى كتابة بضعة كلمات متناسقة، فقط لحفظ ماء الوجه.
مرت الساعات رتيبة كأنها أعوام، أراد أن تنتهى سريعا وكأنها أشغال شاقة، دقت الرابعة مساء، وبدأ يهيئ نفسه للخروج، رتب نفسه كى يلحق بموعد آخر مرتبط به مع آخرين، لكنها دقت معها دقات قلبه.
على بعد خطوات منه جلست فتاة تبدو للوهلة الأولى مثل طفلة أو ملاكً جاء لتوه من السماء، بسيطة ورقيقة ووجها يشع نورا وضياء لا يخطئ فيه ضعيف البصر، اهتز قلبه وذهب عقله، اعتقد لوهلة أن الله أرسل إليه ملاكا من السماء، ظل يختلس النظرات إليها، فى دهشة وتساؤل وبدت في داخله كأنها طقوس روحانية يقوم بها.
كان غريبا عليه أن تسأل فتاة رقيقة وجميلة مثلها، إنسانا خجولا مثله، لا يجيد فتح الكلام، أو ربما يحب أن يظهر كذلك، في رقة لا تخلو من البراءة مغلفة بابتسامة بسيطة مثلها تماما "ممكن حضرتك تفتح لى الجهاز"، لم تطل دهشته باغته الطلب وباغتته عيناها، وأسرع على غير هدى لفتح الجهاز.
ما إن هم ليكتب كلمة المرور، أوقفه صوت "جهوري" خرج كزائير فرس النهر الهائج العائم فى بحيرته بحديقة الحيوان، كان ذلك صوت مديرها وهو يطلب من زميل آخر أن يفتح لها الجهاز. لم ينتبه لكلامه ولم يستدر إليه، فقط عاد لمجلسه كما كان، لكنه شعر أن قلبه لم يعد في مكانه.
فجأة شعر وكأنه يحب العمل لأول مرة، وتساءل عن السبب الذي جعله يفضل العمل من المنزل كل الوقت الذى مضى، نسى حينها ميعاده وحماسه للنزول قبل قليل، ووجد نفسه يتسأل "ما الذي تفعله هنا!" وكأنه غريبا على فتاة مثلها أن تكون في مثل هذا المكان.
لم يكن تحدث إلى أحد خاصة في ذلك اليوم، إلا للضرورة، وكأنه نذر قضاء اليوم صوما عن الكلام، لكنه حين رآها تراقص قلبه بفرحة كفرحة المريدين لرؤية الحبيب، نظر إليها وتشجع كي يتحدث إليها، "أنتي معانا هنا!" شعر وكأن لسانه ليس الذي يتحدث، كانت دقات قلبه قد تعانقت مع بعضها، فشكلت أوتار قلبه أنغاما، خرجت ككلمات من قلبه، نطق بها جوفه، ابتسمت بسمة حانية، وكأنها نجمة بعيدة تتلألأ في سماء قاحلة فأنارت سماءه، واستطردت "أيوه أنا متدربة هنا جديدة"، ابتسم ابتسامة وبداخله أحس بنشوة النصر، شعر أخيرا أنه وصل، شعر وكأنه أمام فتاة أحلامه، وتسأل "كيف جاء هذا الملاك إلى هذا المكان".
كانت كلماته تتسارع مع دقات قلبه وكأنهما في سباقً مقدس، مشاعره تدفعه وكأنه في سباق، سألها عن اسمها، ردت: "نادرة" لم يكن سمع بمثل هذا الاسم من قبل، أو ربما جاءه هذا الشعور لأنه لم ير مثلها من قبل، فمثلها نادر في الوجود حقا، كانت نادرة الروح والوجه والجمال، عظيمة الدلال.. زادت دقات قلبه أسرع وتنهدت روحه، وعرف أنه "العشق".
كانت نادرة في حضورها، مُضيئة حينما حلت، عينيها جوهرتان تلمعان مثل الشمس، وضحكتها كنسمات الصباح في يوم صيفي حار، عنقها كمنحوتة بديعة، وجهها دائري كالبدر المنير، كلما نظر إليه كان كأنه يرى وجه ملاك، صوتها الهادئ يهدهد على أوتار قلبه، وكأنها أجراس وترانيم تدق فتنشد روحه نشيد الأناشيد.
لم يشعر بنفسه سوى وهو يطلب منها "الأكونت" الخاص بها على "فيس بوك" وتواعد معها أن يتحدث إليها ليلا، بحجة تقديم بعض النصائح التي قد تحتاجها متدربة مثلها في العمل، لكنه في الحقيقة لم يكن لديه أي نصيحة حتى لنفسه فى تلك اللحظة، ولكنها أحكام القلب قد أمرت، وهذه الطريقة الوحيدة كي يكون هناك فرصة للحديث.
كان عليه أن يترك العمل في هذا اليوم، وأن يذهب إلى موعده الذي تأخر عليه ساعتين، عاد إلى يومه، لكنه شعر أنه استرد قلبه، لم يلحظ كيف بدأت مشاعره في الاندفاع، ولكنها لم تتوقف منذ حينها، راح يذوب أكثر فأكثر، وجد نفسه يحب وكأنه لم يحب من قبل، كل مرة يراها فيها كأنه يرى فتاة لأول مرة، كل مرة يحدثها وكأنه يحب لأول مرة، نظرتها كان حلما وأنفاسها كأنها نسمات، سار فى طريقه، اختار فقط أن يحبها وبجنون، أعطته "نادرة" إحساسا لم يعشه من قبل، أعطته السلام والأمان، والعشق والشغف، فقرر أن يهب لها حياته، وأن يعاملها كملكة وجميلة للجميلات، عرفت السعادة من حينها الطريق إلى قلبه، ونسى كيف كانت الحياة قبلها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة