أكرم القصاص - علا الشافعي

الوليد بن عبد الملك يبنى الجامع الأموى فى دمشق.. ما يقوله التراث الإسلامى

الثلاثاء، 19 أكتوبر 2021 05:00 م
الوليد بن عبد الملك يبنى الجامع الأموى فى دمشق.. ما يقوله التراث الإسلامى كتاب البداية والنهاية
كتب أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وقعت فى سنة 96 هجرية العديد من الأحداث المختلفة، منها العسكرى والحربى ومنها السياسى، وكان منها أيضا الانتهاء من بناء الجامع الأموى، فما الذى يقوله التراث الإسلامى؟

يقول كتاب "البداية والنهاية" لـ الحافظ ابن كثير عن سنة "96 هجرية":

فيها تكامل بناء الجامع الأموى بدمشق على يد بانيه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان، رحمه الله تعالى وجزاه خيرا، وكان أصل موضع هذا الجامع قديما معبدا بنته اليونان الكلدانيون الذين كانوا يعمرون دمشق، وهم الذين وضعوها وعمروها أولا، فهم أول من بناها، وقد كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتميزة، وهى القمر فى السماء الدنيا، وعطارد فى السماء الثانية، والزهرة فى السماء الثالثة، والشمس فى الرابعة، والمريخ فى الخامسة، والمشترى فى السادسة، وزحل فى السابعة.

وقد كانوا صوروا على كل باب من أبواب دمشق هيكلا لكوكب من هذه الكواكب السبعة، وكانت أبواب دمشق سبعة وضعوها قصدا لذلك، فنصبوا هياكل سبعة لكل كوكب هيكل، وكان لهم عند كل باب من أبواب دمشق عيد فى السنة.
 
وهؤلاء هم الذين وضعوا الأرصاد، وتكلموا على حركات الكواكب واتصالاتها ومقارنتها، وبنوا دمشق واختاروا لها هذه البقعة إلى جانب الماء الوارد من بين هذين الجبلين، وصرفوه أنهارا تجرى من الأماكن المرتفعة والمنخفضة، وسلكوا الماء فى أفناء أبنية الدور بدمشق، فكانت دمشق فى أيامهم من أحسن المدن، بل هى أحسنها، لما فيها من التصاريف العجيبة.
 
وبنوا هذا المعبد وهو الجامع اليوم فى جهة القطب، وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي، وكانت محاريبهم إلى جهته، وكان باب معبدهم يفتح إلى جهة القبلة، خلف المحراب اليوم، كما شاهدنا ذلك عيانا ورأينا محاريبهم إلى جهة القطب، ورأينا الباب وهو باب حسن مبنى بحجارة منقوشة، وعليه كتاب بخطهم، وعن يمينه ويساره بابان صغيران بالنسبة إليه، وكان غربى المعبد قصر منيف جدا تحمله هذه الأعمدة التى بباب البريد، وشرقى المعبد قصر جيرون الملك، الذى كان ملكهم، وكان هناك داران عظيمتان معدتان لمن يتملك دمشق قديما منهم.
 
ويقال: إنه كان مع المعبد ثلاث دور عظيمة للملوك، ويحيط بهذه الدور والمعبد سور واحد عال منيف، بحجارة كبار منحوتة، وهن: دار المطبق، ودار الخيل، ودار كانت تكون مكان الخضراء التى بناها معاوية.
 
قال ابن عساكر فيما حكاه عن كتب بعض الأوائل: إن اليونان مكثوا يأخذون الطالع لبناء دمشق وهذه الأماكن ثمانى عشرة سنة، وقد حفروا أساس الجدران حتى واتاهم الوقت الذى طلع فيه الكوكبان اللذان أرادوا أن هذا المعبد لا يخرب أبدا ولا تخلو منه العبادة، وأن هذه الدار إذا بنيت لا تخلو من أن تكون دار الملك والسلطنة.
 
قلت: أما المعبد فلم يخل من العبادة. قال كعب الأحبار: لا يخلو منها حتى تقوم الساعة، وأما دار الملك التى هى الخضراء فقد جدد بناءها معاوية، ثم أحرقت فى سنة إحدى وستين وأربعمائة كما سنذكره، فبادت وصارت مساكن ضعفاء الناس وأراذلهم فى الغالب إلى زماننا هذا.
 
والمقصود أن اليونان استمروا على هذه الصفة التى ذكرناها بدمشق مددا طويلةً، تزيد على أربعة آلاف سنة، حتى أنه يقال: إن أول من بنى جدران هذا المعبد الأربعة هود عليه الصلاة والسلام، وقد كان هود قبل إبراهيم الخليل بمدد طويلة، وقد ورد إبراهيم الخليل دمشق ونزل شمالها عند برزة، وقاتل هناك قوما من أعدائه فظفر بهم، ونصره الله عليهم، وكان مقامه لمقاتلتهم عند برزة، فهذا المكان المنسوب إليه بها منصوص عليه فى الكتب المتقدمة يأثرونه كابرا عن كابر وإلى زماننا، والله أعلم.
 
وكانت دمشق إذ ذاك عامرة آهلة بمن فيها من اليونان، وكانوا خلقا لا يحصيهم إلا الله، وهم خصماء الخليل، وقد ناظرهم الخليل فى عبادتهم الأصنام والكواكب وغيرها فى غير موضع، كما قررنا ذلك فى التفسير، وفى قصة الخليل من كتابنا هذا البداية والنهاية، ولله الحمد وبالله المستعان.
 
والمقصود أن اليونان لم يزالوا يعمرون دمشق ويبنون فيها وفى معاملاتها من أرض حوران والبقاع وبعلبك وغيرها، البنايات الهائلة الغريبة العجيبة، حتى إذا كان بعد المسيح بمدة نحو من ثلاثمائة سنة تنصر أهل الشام على يد الملك قسطنطين بن قسطنطين، الذى بنى المدينة المشهورة به ببلاد الروم وهى القسطنطينية، وهو الذى وضع لهم القوانين، وقد كان أولا هو وقومه وغالب أهل الأرض يونانا، ووضعت له بطاركته النصارى دينا مخترعا مركبا من أصل دين النصرانية، ممزوجا بشيء من عبادة الأوثان، وصلوا به إلى الشرق، وزادوا فى الصيام، وأحلوا الخنزير، وعلموا أولادهم الأمانة الكبيرة فيما يزعمون، وإنما هى فى الحقيقة خيانة كبيرة، وجناية كثيرة حقيرة، وهى مع ذلك فى الحجم صغيرة. وقد تكلمنا على ذلك فيما سلف وبيناه.
 
فبنى لهم هذا الملك الذى ينتسب إليه الطائفة الملكية من النصارى، كنائس كبيرة فى دمشق وفى غيرها، حتى يقال: إنه بنى اثنتى عشرة ألف كنيسة، وأوقف عليها أوقافا دارَّة، من ذلك كنيسة بيت لحم، وقمامة فى القدس، بنتها أم هيلانة الغندقانية، وغير ذلك.
 
والمقصود أنهم - يعنى النصارى - حولوا بناء هذا المعبد الذى هو بدمشق معظما عند اليونان فجعلوه كنيسة يوحنا، وبنوا بدمشق كنائس كثيرة غيرها مستأنفة، واستمر النصارى على دينهم بدمشق وغيرها نحوا من ثلاثمائة سنة، حتى بعث الله محمدا ﷺ، فكان من شأنه ما تقدم بعضه فى كتاب السيرة من هذا الكتاب، وقد بعث إلى ملك الروم فى زمانه - وهو قيصر ذلك الوقت - واسمه هرقل يدعوه إلى الله عز وجل، وكان من مراجعته ومخاطبته إلى أبى سفيان ما تقدم، ثم بعث أمراءه الثلاثة: زيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، إلى البلقاء من تخوم الشام، فبعث الروم إليهم جيشا كبيرا فقتلوا هؤلاء الأمراء وجماعة ممن معهم من الجيش، فعزم النبى ﷺ على قتال الروم ودخول الشام عام تبوك، ثم رجع عام ذلك لشدة الحر، وضعف الحال، وضيقه على الناس.
 
ثم لما توفى بعث الصديق الجيوش إلى الشام بكمالها، ومن ذلك مدينة دمشق بأعمالها، وقد بسطنا القول فى ذلك عند ذكر فتحها، فلما استقرت اليد الإسلامية عليها وأنزل الله رحمته فيها، وساق بره إليها، وكتب أمير الحرب أبو عبيدة إذ ذاك، وقيل: خالد بن الوليد، لأهل دمشق كتاب أمان، أقروا أيدى النصارى على أربع عشرة كنيسة، وأخذوا منهم نصف هذه الكنيسة التى كانوا يسمونها كنيسة مريحنا، بحكم أن البلد فتحه خالد من الباب الشرقى بالسيف، وأخذت النصارى الأمان من أبى عبيدة، وكان على باب الجابية الصلح، فاختلفوا ثم اتفقوا على أن جعلوا نصف البلد صلحا ونصفه عنوة، فأخذوا نصف هذه الكنيسة الشرقى فجعله أبو عبيدة مسجدا يصلى فيه المسلمون، وكان أول من صلى فى هذا المسجد أبو عبيدة ثم الصحابة بعده فى البقعة الشرقية منه، التى يقال لها: محراب الصحابة.
 
ولكن لم يكن الجدار مفتوحا بمحراب محنى، وإنما كانوا يصلون عند هذه البقعة المباركة، والظاهر أن الوليد هو الذى فتق المحاريب فى الجدار القبلي، قلت: هذه المحاريب متجددة ليست من فتق الوليد، وإنما فتق الوليد محرابا واحدا، إن كان قد فعل، ولعله لم يفعل شيئا منها، فكان يصلى فيه الخليفة، وبقيتها فتقت قريبا، لكل إمام محراب، شافعى وحنفى ومالكى وحنبلي، وهؤلاء إنما حدثوا بعد الوليد بزمان.
 
وقد كره كثير من السلف مثل هذه المحاريب، وجعلوه من البدع المحدثة، وكان المسلمون والنصارى يدخلون هذا المعبد من باب واحد، وهو باب المعبد الأعلى من جهة القبلة، مكان المحراب الكبير الذى فى المقصورة اليوم، فينصرف النصارى إلى جهة الغرب إلى كنيستهم، ويأخذ المسلمون يمنة إلى مسجدهم، ولا يستطيع النصارى أن يجهروا بقراءة كتابهم، ولا يضربوا بناقوسهم، إجلالا للصحابة ومهابة وخوفا.
 
وقد بنى معاوية فى أيام ولايته على الشام دار الإمارة قبلى المسجد الذى كان للصحابة، وبنى فيها قبة خضراء، فعرفت الدار بكمالها بها، فسكنها معاوية أربعين سنة كما قدمنا.
 
ثم لم يزل الأمر على ما ذكرنا من أمر هذه الكنيسة شطرين بين المسلمين والنصارى، من سنة أربع عشرة، إلى سنة ست وثمانين فى ذى القعدة منها، وقد صارت الخلافة إلى الوليد بن عبد الملك فى شوال منها، فعزم الوليد على أخذ بقية هذه الكنيسة وإضافتها إلى ما بأيدى المسلمين منها، وجعل الجميع مسجدا واحدا، وذلك لأن بعض المسلمين كان يتأذى بسماع قراءة النصارى للإنجيل، ورفع أصواتهم فى صلواتهم، فأحب أن يبعدهم عن المسلمين، وأن يضيف ذلك المكان إلى هذا، فيصير كله معبدا للمسلمين، ويتسع المسجد لكثرة المسلمين.
 
فعند ذلك طلب النصارى وسأل منهم أن يخرجوا له عن هذا المكان، ويعوضهم إقطاعات كثيرة، وعرضها عليهم، وأن يبقى بأيديهم أربع كنائس لم تدخل فى العهد، وهي: كنيسة مريم، وكنيسة المصلبة داخل باب شرقي، وكنيسة تل الجبن، وكنيسة حميد بن درة التى بدرب الصقل، فأبوا ذلك أشد الإباء.
 
فقال: ائتونى بعهودكم التى بأيديكم من زمن الصحابة، فأتوا بها فقرئت بحضرة الوليد، فإذا كنيسة توما - التى كانت خارج باب توما على حافة النهر - لم تدخل فى العهد، وكانت فيما يقال أكبر من كنيسة مريحنا، فقال الوليد: أنا أهدمها وأجعلها مسجدا، فقالوا: بل يتركها أمير المؤمنين وما ذكر من الكنائس ونحن نرضى ونطيب له نفسا ببقية هذه الكنيسة، فأقرهم على تلك الكنائس، وأخذ منهم بقية هذه الكنيسة.
 
هذا قول، ويقال: إن الوليد لما أهمه ذلك وعرض ما عرض على النصارى فأبوا من قبوله. دخل عليه بعض الناس فأرشده إلى أن يقيس من باب شرقى ومن باب الجابية، فوجدوا أن الكنيسة قد دخلت فى العنوة وذلك أنهم قاسوا من باب شرقى ومن باب الجابية فوجدوا منتصف ذلك عند سوق الريحان تقريبا، فإذا الكنيسة قد دخلت فى العنوة، فأخذها.
 
وحكى عن المغيرة مولى الوليد قال: دخلت على الوليد فوجدته مهموما، فقلت: مالك يا أمير المؤمنين مهموما؟ فقال: إنه قد كثر المسلمون وقد ضاق بهم المسجد، فأحضرت النصارى وبذلت لهم الأموال فى بقية هذه الكنيسة لأضيفها إلى المسجد فيتسع على المسلمين فأبوا، فقال المغيرة: يا أمير المؤمنين عندى ما يزيل همك، قال: وما هو؟
 
قلت: الصحابة لما أخذوا دمشق دخل خالد بن الوليد من الباب شرقى بالسيف، فلما سمع أهل البلد بذلك فزعوا إلى أبى عبيدة يطلبون منه الأمان فأمنهم، وفتحوا له باب الجابية، فدخل منه أبو عبيدة بالصلح، فنحن نماسحهم إلى أى موضع بلغ السيف أخذناه، وما بالصلح تركناه بأيديهم، وأرجو أن تدخل الكنيسة كلها فى العنوة، فتدخل فى المسجد.
 
فقال الوليد: فرجت عني، فتول أنت ذلك بنفسك، فتولاه المغيرة ومسح من الباب الشرقى إلى نحو باب الجابية إلى سوق الريحان فوجد السيف لم يزل عمالا حتى جاوز القنطرة الكبيرة بأربع أذرع وكسر، فدخلت الكنيسة فى المسجد، فأرسل الوليد إلى النصارى فأخبرهم وقال: إن هذه الكنيسة كلها دخلت فى العنوة فهى لنا دونكم.
 
فقالوا: إنك أولا دفعت إلينا الأموال وأقطعتنا الاقطاعات فأبينا، فمن إحسان أمير المؤمنين أن يصالحنا فيبقى لنا هذه الكنائس الأربع بأيدينا، ونحن نترك له بقية هذه الكنيسة، فصالحهم على إبقاء هذه الأربع الكنائس، والله أعلم.
 
وقيل: إنه عوضهم منها كنيسة عند حمام القاسم عند باب الفراديس داخله فسموها مريحنا باسم تلك الكنيسة التى أخذت منهم، وأخذوا شاهدها فوضعوه فوق التى أخذوها بدلها، فالله أعلم.
 
ثم أمر الوليد بإحضار آلات الهدم، واجتمع إليه الأمراء والكبراء، وجاء إليه أساقفة النصارى وقساوستهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا نجد فى كتبنا أن من يهدم هذه الكنيسة يجن، فقال الوليد: أنا أحب أن أجن فى الله، و والله لا يهدم فيها أحد شيئا قبلي، ثم صعد المنارة الشرقية ذات الأضالع المعروفة بالساعات، وكانت صومعة هائلة فيها راهب عندهم، فأمره الوليد بالنزول منها، فأكبر الراهب ذلك، فأخذ الوليد بقفاه فلم يزل يدفعه حتى أنزله منها، ثم صعد الوليد على أعلى مكان فى الكنيسة، فوق المذبح الأكبر منها الذى يسمونه الشاهد، وهو تمثال فى أعلى الكنيسة.
 
فقال له الرهبان: احذر الشاهد، فقال: أنا أول ما أضع فأسى فى رأس الشاهد، ثم كبر وضربه فهدمه، وكان على الوليد قباء أصفر لونه سفرجلى قد غرز أذياله فى المنطقة، ثم أخذ فأسا بيده فضرب بها فى أعلى حجر فألقاه، فتبادر الأمراء إلى الهدم، وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات، وصرخت النصارى بالعويل على درج جيرون، وكانوا قد اجتمعوا هنالك، فأمر الوليد أمير الشرطة وهو أبو نائل رياح الغساني، أن يضربهم حتى يذهبوا من هنالك، ففعل ذلك، فهدم الوليد والأمراء جميع ما جدده النصارى فى تربيع هذا المعبد من المذابح والأبينة والحنايا، حتى بقى المكان صرحة مربعة، ثم شرع فى بنائه بفكرة جيدة على هذه الصفة الحسنة الأنيقة، التى لم يشتهر مثلها قبلها كما سنذكره.
 
وقد استعمل الوليد فى بناء هذا المسجد خلقا كثيرا من الصناع والمهندسين والفعلة، وكان المستحث على عمارته أخوه وولى عهده من بعده سليمان بن عبد الملك، ويقال: إن الوليد بعث إلى ملك الروم يطلب منه صناعا فى الرخام وغير ذلك، ليستعين بهم على عمارة هذا المسجد على ما يريد، وأرسل يتوعده لئن لم يفعل ليغزون بلاده بالجيوش، وليخربن كل كنيسة فى بلاده، حتى كنيسة القدس، وهى قمامة، وكنيسة الرها، وسائر آثار الروم.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة