لا تزال مدينة الفيوم تكشف عن المزيد من أسرار الماضى، التى تتيح معرفة الكثير من خفايا الحياة القديمة، حيث حققت طفرة فى عالم الحفريات كونها متحفا مفتوحا للعديد من الهياكل المتحجرة للكائنات الحية القديمة، وحفريات لا تقدر بثمن لأقدم الحيوانات التى عاشت منذ ملايين السنين، فمزيد من اكتشافات صحراء الفيوم ستحكى لنا كثير من كواليس نشأة الثدييات على الأرض عبر التاريخ الجيولوجي.
"قطرانى ميز سفروتس"، فأر صغير الحجم عاش فى منطقة جبل قطراني، شمال بحيرة قارون، فى منخفض الفيوم، بصحراء مصر الغربية، قبل ما يقرب من 34 مليون سنة، رأسه بحجم عقلة الأصبع ولا يتخطى وزنه 45 جراما.
تمكن فريق من الباحثين فى مركز الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة برئاسة الدكتور هشام سلام، بالتعاون مع معهد الصحة العالمية والبيئة البشرية بالجامعة الأمريكية فى القاهرة، وقطاع حماية الطبيعة فى جهاز شؤون البيئة المصري، بالإضافة إلى باحثين من جامعة جنوب كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وجامعة سالفورد بالمملكة المتحدة، من إضافة جنس جديد من الثدييات التى عاشت فى أفريقيا بعد هجرتها من موطنها الأم آسيا، عبر جذوع الأشجار التى انتقلت عبر المحيط الهندى والبحر الأحمر بفعل الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية، حيث تمكنوا من اكتشاف نوعا جديدا من الفئران صغيرة الحجم عاشت فى الغابات المصرية قبل نحو 34 مليون سنة، رأسه بحجم عقلة الأصبع ولا يتخطى وزنه 45 جراما، أطلقوا عليه "قطرانى ميز سفروتس".
وقال الدكتور هشام سلام، عالم الحفريات الفقارية بالجامعة الأمريكية، وجامعة المنصورة وقائد الفريق البحثي، لـ"اليوم السابع"، إن اهتمامهم بدراسة عالم القوارض والبحث عن خفاياه، انطلق من اهتمامهم بتوثيق تاريخ الأرض من خلال الأسرار القديمة والأدلة المدفونة من حفريات فى باطن الأرض، فى محاولة منهم للتعرف على تطور حياة الكائنات الحية منذ ملايين السنين، مؤكدا أن دراسة القوارض تقع ضمن مجال دراستهم، حيث إنها من الكائنات الحية التى تتعايش فى مختلف البيئات، ولها دليل قوى فى مختلف بقاع الأرض فضلا عن قدرتها على التكاثر والانتشار بشكل سريع؛ وهذا سهل عليهم كثيرا مجال الدراسة والبحث، مثلها مثل دراسة القردة، فهم جزء من البيئة الحياتية التى من السهل جدا استنتاج منها الكثير من المعلومات بشكل أوسع.
وأضاف أن منخفض الفيوم يعد الأكثر أهمية بين مواقع الصحارى الإفريقية من حيث إنتاج الحفريات الفقارية خاصة الثدييات من فترة الباليوجين "الفترة من 66 وحتى 23 مليون سنة مضت". ففى تلك الفترة وتحديدا قبل 34 مليون سنة، لم تكن صحراء الفيوم منذ تلك الأرض التى نعرفها اليوم ؛ فقد كانت غابات استوائية مطيرة تشبه تلك التى نراها فى اندونيسيا وماليزيا.
واستطرد أن داخل نطاق منخفض الفيوم، تقع منطقة جبل قطرانى هذه الصحراء القاحلة الواقعة شمال بحيرة قارون والتى تتميز بمجموعة من الجبال الملونة وكأنها لوحة فنية شديدة الابداع، تكمن فى رمالها وجبالها أسرار وخبايا الحيوات القديمة، فقبل نحو 34 مليون سنة كانت صحراء قطرانى نابضة بشتى أشكال الحياة الاستوائية، من أنهار تفيض وجداول ومستنقعات مائية، وأشجار عملاقة تحلق فوق غصونها الطيور وتثب عليها القردة، وغابات استوائية تعج بالزواحف والثدييات المختلفة، فبكل ما تحتويه من مظاهر للحياة تمكنت يوما بعد يوم أن تبوح بأسرار حيوات الماضى السحيق عليها.
وأوضح أن الدراسة كشفت أن أسلاف هذه النوعية من القوارض عاشوا بدول جنوب أسيا كالهند وباكستان بالعصر الأيوسينى، وانتقلوا من آسيا موطنهم الأصلى إلى أفريقيا ومن ثم إلى أمريكا الجنوبية، وتسمى "هستريكوجناسي" مضيفا أن طريقة انتقالهم وهجرتهم من قارة لأخرى توضحها مجموعة من النظريات التى تدعم من خلال الأدلة العلمية.
وأشار إلى أن نظريات انتقال القردة والفئران من أفريقيا موطنها الأصلى إلى أمريكا الجنوبية جاء عن طريق اقتطاع جزء من الغابة وانتقال الفئران عبرها فى اتجاه التيارات الهوائية حتى استقرت على الشاطئ الشرقى لأمريكا الجنوبية.
وأضاف أن الفئران صغيرة الحجم التى استطاعت أن تصل بسلام إلى قارة أمريكا الجنوبية بعد رحلة سفر شاقة، هى الفئران التى تحملت المكوث لأكثر من أسبوعين فى المياه فى ظل ظروف الطقس الصعبة، ونجحت فى الوصول لشواطئ أمريكا الجنوبية.
وقال إن الفئران عندما نجحت فى الوصول للشاطئ، وجدت أمامها قارة كاملة تنعم بأسباب الحياة، فتنوعت تنوع كبير جدا، ومنها ما وصل حجمه لأكثر من طن فى التاريخ الجيولوجي، حيث يعد أسلافهم "الكابيبارا" من أكبر الفئران على وجه الأرض، وغيرها من الأنواع الأخرى صغيرة الحجم، التى تنوعت وتكاثرت، حتى أصبحت من أكثر الكائنات تنوعا فى قارة أمريكا الجنوبية.
وأوضح أن اكتشاف هذا النوع بالتحديد من الفئران يوطد تاريخ نوع وجنس من الفئران عاش فى ظل ظاهرة الاحتباس الحرارى قبل الانقراض الذى شهده العالم بأسره مباشرة، فأوضح الاكتشاف أن قبل زمن "السفروتس" وقبل 30 مليون سنة، شهد العالم كارثة كبيرة جدا وهى انقراض أكثر من 65% من الكائنات الحية على مستوى العالم بسبب الانخفاض الشديد فى درجات الحرارة، وتزامن ذلك مع انشقاق البحر الأحمر وانفصال الجزيرة العربية عن قارة إفريقيا.
وقال إنهم تمكنوا من دراسة جمجمتين ومجموعة كبيرة من الفكوك السفلية، لكن لم يكن الأمر بالسهولة الكافية؛ فالعيانات غاية فى الصغر ورقيقة جدا وملتصقة بالطين الصخرى الصلب مما جعل تحضير العينات للدراسة صعب للغاية لذا لزم عليهم عمل أشعة مقطعية دقيقة ليتمكنوا من دراستها فى صورة ثلاثية الأبعاد، وأظهرت الدراسة أن طول ضرس السفروتس لم يتخطى الميلليمتر الواحد وجمجمته يصل طولها لحوالى 1 سم ونصف أما وزنه فلا يتخطى الـ45 جرام، مضيفا أن الفترة الزمنية التى استغرقت فى عملية البحث وصلت لأكثر من 20 عاما، وتمكن الفريق من توثيق هذا النوع من الفئران خلال 4 سنوات.
وأشار إلى أن الفأر "سفروتس"، يعد من أجداد القوارض التى تعيش حاليا فى دول جنوب وغرب أفريقيا، مثل فأر الخلد العاري، وفأر الخيزران، الذى يعد إحدى الوجبات الرئيسية فى بعض الدول الأفريقية، كما يعتبر أحد أجداد أكبر حيوان قارض يعيش على الأرض حتى اليوم، والمعروف باسم "كابيبارا" فى أمريكا الجنوبية، وهناك أنواع أخرى تستخدم كفئران تجارب لديها قدرات خاصة وخارقة.
وأكد الأهمية التاريخية والعلمية لهذا الاكتشاف، مشيرا إلى أنهم تمكنوا ولأول مرة من تسجيل نوع وجنس جديدين لمملكة الحيوان باسمهم، ولذلك أصروا على تسميته باسم عربى للحفاظ على الهوية العربية وهو "قطرانى ميز سفروتس"، نسبة لمنطقة جبل قطرانى المكتشفة منها العينات، مضيفا أن مصطلح "ميز" يعنى فأر باللاتينية أما "سفروتس" مأخوذة من اللغة العامية المصرية والتى تعنى صغيرا فى الحجم.
وأشار إلى أن هذا الاكتشاف يعتبر سطرا جديدا فى السجل التطورى للكائنات التى انتشرت فى قارة أفريقيا بعد انقراض الديناصورات من 66 مليون سنة، مضيفا: "احنا بنكتب كتاب تاريخ الأرض"، حيث إن هذا الاكتشاف يعد ضمن سلسلة كبيرة من الاكتشافات، التى تضاف بشكل دائم لهذا الكتاب، حتى يتمكنوا من الوصول لصورة أكثر وضوحا عما حدث فى الماضى وكان له دور فى التنوع البيولوجى الذى نشهده اليوم، مؤكدا أنهم يسيرون فى عملهم على نهج ثابت يعد من أهم مبادئ علم الجيولوجيا وهو "التعلم من الماضى لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل".
وقال إن الطبيعية تدلى بأسرارها من حين لآخر، ولكن هذه الأسرار تحتاج لمن يبحث ويتحرى عنها فى المناطق التى سمحت الطبيعية بالبحث فيها عن إجابة، مشيرا إلى أنهم إذا أرادوا الحصول على تفسير يتعلق بتنوع الثدييات بعد انقراض الديناصورات، سيلجأوا لمدينة الفيوم ومنخفض القطارة، وإذا أرادوا أن يعرفوا ما حدث للديناصورات، سيجدون التفسير فى الواحات البحرية وواحات الداخلة والخارجة؛ لكون الصخور التى تتواجد فى هذه الواحات أقدم من الصخور المتواجدة فى منخفضى الفيوم والقطارة، حيث أنها عبارة عن حفر أو منخفضات، كلما ازداد عمقها دل ذلك على بعد الفترة الزمنية والتاريخية، مضيفا أن صحراء مصر غنية جدا بالتاريخ والتراث الطبيعى الذى يحمل بين طياته الكثير من حكايات التراث القديم.
وأضاف أن مدينة الفيوم تكتسب أهمية كبيرة فى مجال البحث العلمى والاكتشافات، موضحا بأن الفيوم عبارة عن حفرة فى الأرض أو منخفض تكون بفعل عوامل التعرية والتجوية عبر ملايين السنين، والتى استطاعت أن تكشف لنا عن صخور عمرها من 30 إلى 45 مليون سنة، حيث تمتلك سجل متكامل عن حياة الكائنات التى عاشت على الأرض لمدة 15 مليون سنة، وتعد نافذة كافية لقراءة ماذا حدث للكائنات بعد انقراض الديناصورات.
وأكد أهمية التعاون بين الجامعات المصرية والأجنبية فى المجال البحثى واكتشاف الحفريات، لدوره فى الانفتاح على العالم الخارجى والتعرف على أهم ما وصلت إليه دول العالم الحديث من أفكار وإمكانيات فى مجال الحفريات، والتعرف على الثقافات الأخرى، فضلا عن كونه فرصة حقيقية لتكوين علاقات بين طلبة الجامعات المصرية والأجنبية حتى تتلاقى العقول وتتبادل الخبرات والرؤى، مشيرا إلى أن ذلك سيخلق لدينا شخصية مصرية منفتحة علميا ولديها قدرة على مواكبة كبار العلماء على مستوى العالم، مضيفا أن العلم ليس له موطن ويشارك فى إنتاجه الجميع دون استثناء.
وقال إن المركز تمكن من اكتشاف العديد من الحفريات بقيادة فريق سلام لاب، والتى كان أهمها اكتشاف القرموط الضخم "قرموطس" فى وادى الحيتان، والديناصور "المنصوراصورس" الذى بلغ وزنه 5 أطنان ونصف طن، ووصل طوله لـ10 أمتار، وعاش فى الفترة من 70 إلى 80 مليون عام قبل الميلاد. وظهرت أهمية هذا الاكتشاف كونه نوع جديد من الديناصورات لم يكتشف من قبل، وباعتباره الديناصور المصرى السادس، وكونه أول ديناصور مصرى مكتشف على أيدى باحثين مصريين، وسمى باسم جامعة المنصورة "المنصوراصورس"، لكون المركز متخصص فى دراسة حفريات الكائنات الفقارية، التى تعود إلى ملايين السنوات، قبل وجود الإنسان على الأرض، ويمثل أهمية علمية وتاريخية، حيث يشير إلى وجود اتصال برى بين أفريقيا وأوروبا. واكتشاف الحوت البرمائي، بمنطقة وادى الحيتان، الذى بلغ طوله نحو 20 متر، وكان من أهم الحيتان المهيمنة على البيئة البحرية فى تلك الفترة، والتمساح "واحة سوكس" الذى كان يعيش فى منطقة الواحات الداخلة والخارجة، وأخيرا اكتشاف الفأر "سفروتس".
وأشار إلى أن مركز حفريات جامعة المنصورة استطاع أن يحقق نقلة نوعية فى عالم الحفريات، بعد جهد وعزيمة متواصلة على مدار سنوات طويلة وتعاون مع وزارة البيئة بقيادة الدكتور محمد سامح، مضيفا أنهم كان لديهم حلم بإنشاء مدرسة علمية تقوم على الإطلاع والقراءة الجيدة لكل ما هو جديد فى العلم وتضم طلبة مصريين متميزين، تعطى لهم الفرصة لدراسة مختلف فروع علم الحفريات، ونجحوا فى تحقيق ذلك بجهد متواصل ورغبة فى التفوق والنجاح، كما أنهم حريصون على عمل أبحاث بجودة عالية حتى يتم قبولها من المجلات العالمية، حيث أن إصرارهم المتواصل للنجاح والتميز هو ما أوصلهم للصدارة فى مجال البحث العلمي، وذلك بإشادة جميع دول العالم.
وقالت شروق الأشقر، الباحثة والمؤلفة الرئيسية للدراسة، إن العينات أظهرت اختلافات واضحة فى الصفات المورفولوجية للأسنان العلوية والسفلية، وبمقارنته مع القوارض المكتشفة من القارة الأفروعربية نستطيع أن نجزم بأنه جنس ونوع جديد لم يكتشف من قبل.
وأضافت: "لم نسجل فى هذه الدراسة جنسا ونوعا جديدين فقط لكننا استطعنا تسجيل أول عظام لجمجمة الفيوكريسيتومينز" المجموعة الكبيرة التى ينتمى إليها الكشف الجديد ".
جدير بالذكر أن مركز الحفريات بجامعة المنصورة يعد أول مركز متخصص للحفريات الفقارية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويضم العديد من الحفريات الفقارية من العصور الجيولوجية التى يرجع عمرها عشرات بل مئات الملايين من السنين، ومنها حفريات السلاحف والديناصورات والقردة والحيتان والتماسيح والأسماك والقوارض، ومختلف الكائنات الفقرية.
ويهتم المركز بدراسة التراث الطبيعى للحفريات الفقارية، تحت قيادة هشام سلام، أستاذ مساعد الجيولوجيا بكلية العلوم، كما يهدف إلى تربية كوادر أكاديمية وتدريس علم الحفريات الفقارية داخل مصر، بالإضافة إلى اكتشاف ومعالجة ودراسة وتخزين التراث الطبيعى من الحفريات الفقارية المصرية، ويضع فى أولوياته زيادة الوعى لدى المجتمع المصرى بمعرفة تراثهم الطبيعى من الحفريات الفقارية المصرية وعقد مشروعات بالتعاون مع جامعات دولية عريقة مثل جامعة كامبريدج، جامعة جنوب كالفورنيا، جامعة متشجن، جامعة أوهايو، جامعة دوك، جامعة ألبرتا، جامعة ستونى بروك، متحف كارنيج للتاريخ الطبيعى ومتحف دنفر للتاريخ الطبيعى.
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(1)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(2)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(3)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(4)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(5)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(6)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(7)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(8)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(9)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(10)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(11)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(12)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(13)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(14)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(15)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(16)
مركز-الحفريات-الفقارية-بكلية-العلوم-بجامعة-المنصورة-(17)
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة