في الوقت الذى يتفاقم فيه الصراع بين الولايات المتحدة والصين، تبدو روسيا رقما صعبا في المعادلة الدولية، في إطار أبعاد تاريخية، وسياسية، باعتبارها الوريث الشرعى للاتحاد السوفيتى، ناهيك عن دورها الهام في النظام الدولى، رغم تراجعها لسنوات في أعقاب الحرب الباردة، كأحد أعضاء "الفيتو" في مجلس الأمن، ناهيك عن دورها المتنامى في العديد من مناطق العالم، وهو ما تجلى بوضوح في السنوات الأخيرة سواء في منطقة الشرق الأوسط، عبر البوابة السورية، ثم بعد ذلك في أوروبا عن طريق أنابيب الغاز، التي تمكنت إلى حد كبير من تقليص حجم العداء التاريخى الكبير، بين دول الجانب الغربى من القارة العجوز، وموسكو، لتصبح روسيا المستفيد الأكبر من كافة المتغيرات والتفاعلات التي يشهدها العالم في الآونة الأخيرة.
فلو نظرنا إلى التراجع الكبير بين الولايات المتحدة وحلفائها، والذى بدأ منذ حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، نجد أن موسكو تمكنت من تقديم نفسها لهم باعتبار داعما مهما، رغم من الفوارق الاقتصادية، إذا ما قورنت بواشنطن، حيث نجحت من إرساء مبدأ "الشراكة" مع حلفاء أمريكا، ليكون بديلا عن "الدعم" الذى طالما قدمته الولايات المتحدة لحلفائها، خاصة في دول المعسكر الغربى، وهو ما بدا بوضوح في مشروعات الغاز العملاقة التي ربطت بين الجانبين، ناهيك عن تقديم نفسها في إطار أخر، باعتبارها قوى قادرة على التعامل مع الأزمات والتهديدات العابرة للدول، على غرار تداخلها في الأزمة السورية، ونجاحها الكبير في تقويض داعش هناك، بالإضافة إلى دعمها الملموس للعراق في حربه ضد الإرهاب، لتضع لنفسها بقوة من جديد في منطقة الشرق الأوسط.
بينما يبقى الصعود الكبير للصين مفيدا على الجانب الأخر لموسكو، إذا ما وضعنا في الاعتبار الكثير من الأبعاد، وأهمها تعويض الفارق الاقتصادى الذى تتفوق به الولايات المتحدة على الروس، خاصة في ظل التحالف القوى بين موسكو وبكين، ناهيك عن وجود قوى صاعدة يمكنها استنزاف الهيمنة الأمريكية المتراجعة، ليشكلا معا (روسيا والصين)، تكتلا يمكنه تحقيق تكامل سياسى واقتصادى، من شأنه ملء أكبر قدر ممكن من الفراغ الناجم عن التراجع الأمريكي، سواء على مستوى التحالفات، في ظل الغضب الكبير بين حلفاء واشنطن جراء تخلى الولايات المتحدة عنهم، أو على مستوى الدور الدولى، عبر التدخل المباشر في الأزمات الدولية.
ولعل الحرب المستعرة بين الولايات المتحدة والصين، تمثل بعدا ثالثا للاستفادة الروسية، من الصراع الدولى الراهن، من منطلق براجماتى بحت، حيث يبقى التصعيد الأمريكي ضد بكين، بمثابة فرصة لالتقاط الأنفاس بعد عقود من التركيز على موسكو، من خلال العقوبات الدولية، ومحاولات الاستنزاف خوفا من عودة "شبح" الاتحاد السوفيتى، كما أنه يضعها في موضع الاستقطاب بين القوتين الأمريكية والصينية، في ظل محاولات واضحة من الجانبين للفوز بدعم موسكو، وهو ما يبدو في التطور الكبير الذى تشهده العلاقة بين روسيا وطرفى الصراع الراهن، ناهيك عن احتمالات تراجع القوتان (أمريكا والصين)، على إثر صراعهما المتنامى، في الوقت الذى قد تحقق فيه موسكو صعودا يضعها بقوة فى المنافسة على عرش النظام الدولى.
فلو نظرنا إلى العلاقات الصينية الروسية، نجد أن ثمة تطور كبير منذ بداية الألفية، عندما اعتلى الرئيس فلاديمير بوتين "عرش" الكرملين، ليضع حدا للخلافات الحدودية، بينما سعى إلى تعظيم المصالح المشتركة بين الجانبين، في حين تغير شكل العلاقة بين موسكو وواشنطن بوضوح خلال حقبة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذى سعى للتقارب مع روسيا، في إطار تغيير خارطة الصراع نحو بكين، وهو النهج الذى سارت عليه بعد ذلك الإدارة الحالية، رغم بعض التصريحات العدائية، إلا أنها لم تنفى حقيقة مفادها أن أمريكا تواصل التقارب مع روسيا، بينما تسعى لـ"دق إسفين" في التحالف الروسى الصينى، عبر إحياء بعض الصراعات القديمة، وعلى رأسها الخلافات الحدودية بين الجانبين.
وهنا يمكننا القول بأن روسيا تبقى الطرف الأكثر استفادة من الوضع الدولى الراهن، خاصة وأن كافة المعادلات الراهنة تصب في صالحها، سواء فيما يتعلق بالتراجع الأمريكي، أو الصعود الصينى، أو الصراع الأمريكي الصينى، ربما لتضع نفسها في طرفا في "مباراة نهائية" محتملة، تنتظر فيها موسكو الفائز من واشنطن وبكين.