ربما لا يكون مصطلح "التدويل" جديدا في العلاقات الدولية، حيث ارتبط في الكثير من الأحيان باللجوء إلى المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، لحسم خلافات معينة تنشب بين الدول، حيث تبقى قراراتها في الغالب الأعم، غير ملزمة لأطرافها، إلا في حالة اتفاقهم في معاهدة مكتوبة على الالتزام بما سوف تسفر عنه أحكامها، بشأن القضية الخلافية، على غرار معركة مصر القضائية، لاسترداد أرض طابا الغالية، في مارس 1989، وذلك بعد جولات تفاوضية ماراثونية، انتهت بالاتفاق على اللجوء لمحكمة العدل الدولية، ليعود الحق إلى أصحابه في نهاية المطاف، وتحقق مصر خلالها انتصارا قضائيا، يضاف إلى انتصاراتها العسكرية والدبلوماسية، التي سبق وأن حققتها، عبر انتصار أكتوبر المجيد، في عام 1973، ثم استرداد الجزء الأكبر من سيناء دبلوماسيا عبر معاهدة السلام.
إلا أن الدبلوماسية المصرية ربما نجحت، في عصر "الجمهورية الجديدة"، في إضفاء أبعادا جديدة للمصطلح الدولى، تحمل في مجملها شمولا يتجاوز القضاء الدولى، بحيث تحمل على عاتقها، ليس فقط حقوقها، وإنما حقوق الشعوب الأخرى، التي تحمل نفس المعاناة، إثر نفس التهديدات التي تواجهها الدولة المصرية، وهو النهج الذى أضفى المزيد من الزخم الدولى، على القضايا التي تتبناها مصر، لتتحول من مجرد مسائل متعلقة بالمصالح المصرية، إلى قضايا دولية، ترتبط بالمصلحة الجماعية للمجتمع الدولى بأسره، بات تهديدها يطال الجميع، وبالتالي ينبغي الالتفات لها من كافة أطراف المجتمع الدولى بإذعان، من أجل إنقاذ شعوب العالم، من الكثير من المخاطر المحدقة بها.
ولعل المعركة الأولى التي خاضتها مصر، في هذا الإطار، في أعقاب ثورة الـ30 من يونيو، كانت الحرب على الإرهاب، والتي سعت بعض القوى الدولية والإقليمية، الطامحة في السيطرة والنفوذ، نحو تضييق نطاقها، لتصبح معركة "مصرية"، لتصدير صورة كاذبة حول أهدافها، لتشويه صورة "الجمهورية الجديدة"، عبر وصمها بـ"الديكتاتورية"، في الوقت الذى وضعت فيه الميليشيات الإرهابية، في صورة "المعارضة السياسية"، إلا أن الإدارة المصرية نجحت في تحويل الدفة في صالحها، عبر خطاب دبلوماسي، يحمل في طياته تحذيرات شديدة اللهجة من تداعيات مهادنة الإرهاب، وجماعات التطرف، على كافة القوى الدولية، وهو الخطاب الذى ثبتت مصداقيته فيما بعد مع وصول آلة العنف، إلى قلب أوروبا والولايات المتحدة، ليدرك العالم أن الخطر الذى يداهم مصر ليس بعيدا عن أعتى القوى الدولية، وأكثرها أمنا.
وهنا تحول الخطاب المصرى من مجرد معالجة لتهديد داخلى، إلى رؤية متكاملة لعلاج أزمة دولية، انتبه لها العالم، وإن كان متأخرا، وهو ما يبدو في العديد من الإجراءات التي اتخذتها العديد من دول الغرب الأوروبى، والتي حملت استنساخا للرؤية المصرية في الكثير من الأحيان، على غرار فرنسا، والتي سارت في معركتها على نفس المسارات التي سبقتها إليها الدولة المصرية، سواء من الجانب الأمني، والقائم على استخدام "القوة الصلبة"، في مواجهة المتطرفين، إلى جانب البعد الفكرى، عبر تقديم خطاب دينى، لا يتعارض مع مبادئ التسامح وقبول الأخر، وهو ما بدا في تشكيل مجلس للأئمة في باريس، وحظر ما يمكننا تسميته بـ"استيراد" الخطباء من الخارج.
"دبلوماسية" تدويل القضايا المصرية، تبدو واضحة في مشاهد أخرى، لا تقل أهمية عن الإرهاب، وعلى رأسها أزمة المياه، والتي لم يقتصر نطاقها على البعد المصلحى الضيق، وإنما أصبحت بمثابة أزمة دولية، في ظل العديد من المعطيات، وأهمها زيادة سكان العالم، وظاهرة التغير المناخى، ناهيك عن المشروعات المائية غير المدروسة التي تقوم بها بعض الدول على مجارى الأنهار الدولية، في انتهاك صريح لحقوق جيرانها.
الرؤية المصرية هنا، تجاوزت التهديد المحلى، الذى تواجهه الدولة، إثر التعنت الإثيوبى، إلى تهديد عالمى حقيقى، ربما يسفر، حالة تعميم مثل هذه السلوكيات المتعنتة، إلى صراع دولى غير محسوب، ربما يأكل الأخضر واليابس، وهو ما يساهم في حشد المجتمع الدولى، تحت مظلة الأمم المتحدة، ليس فقط لحماية حق المصريين في الحياة، وإنما أيضا لحماية حقوق الشعوب الأخرى، التي تواجه، أو قد تواجه مثل هذا التهديد في المستقبل.
وهنا يمكننا القول بأن "تدويل" الأزمات المصرية بات يحمل بعدا مختلفا عن تلك الآلية المتعارف عليها، حيث لم يعد اللجوء لمنظمة دولية لحسم صراع ثنائى، وإنما بات يقوم على حشد المجتمع الدولى بأسره، سواء دولا أو منظمات، للانتباه لمخاطر التهديدات التي تواجهها مصر، ليس فقط من حيث تداعياته على الداخل المصرى، وإنما أيضا من خطورة انتشارها، في ظل حقبة لم تعد تفرق كثيرا.