ربما يتوقف التاريخ طويلا أمام القرار المصري بإلغاء حالة الطوارئ، ليس فقط لكونه قد جاء بعد عقود متواصلة من إعلانها، وإنما أيضا لتوقيته الذى يمثل شهادة نجاح مهمة لـ"الجمهورية الجديدة"، حيث يأتي في أعقاب سنوات الفوضى التي اندلعت إثر ما يسمى بـ"الربيع العربى"، قبل عقد من الزمان، بينما تواصل مصر مرحلة البناء، في الوقت الذى مازالت فيه أثار الفوضى قائمة في العديد من دول المنطقة، ناهيك عن أزمة كورونا التي فرضت حالة طوارئ عالمية، فرضتها أزمة تفشى وباء كورونا، منذ ما يقرب من عامين، غيرت على إثرها "تابوهات" تقليدية، تقوم على مبادئ الحرية والديمقراطية، أرستها القوى المهيمنة على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لتكون دستورا دوليا، تستمد منه الأنظمة شرعيتها.
قرار إلغاء الطوارئ الذي أعلنه الرئيس عبد الفتاح السيسى، في جوهره، يمثل انعكاسا متعدد الأبعاد، في العديد من الملفات، سواء الأمنية أو الاقتصادية، أو الصحية، ناهيك عن تفوق دبلوماسي باهر، يتجلى في الدور الذى لعبته مصر في مختلف الملفات الإقليمية، في الآونة الأخيرة، خاصة تلك المتعلقة بأمن الداخل، خاصة مع التطورات التي تشهدها العديد من القضايا، سواء على الساحة الفلسطينية، أو في الأراضى الليبية، بالإضافة إلى الموقف في كلا من سوريا والعراق، وغيرها، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لرؤية صانع القرار القائمة على التحرك في كافة الملفات، بصورة متزامنة، يمكن من خلالها ضمان تحقيق أكبر قدر من المكاسب، مع الوضع في الاعتبار عامل الوقت، والذى يبدو أولوية قصوى لدى الإدارة المصرية منذ ثورة الـ30 من يونيو، وهو ما تجلى بوضوح في التركيز الكبير على توقيت إنجاز المشروعات الاقتصادية العملاقة التي تدشنها منذ اليوم الأول.
فلو نظرنا إلى الجانب الأمني نجد أنه يحمل شقين، أولهما مرتبط بالداخل، في صورة الحرب على الإرهاب، والتي حققت فيها مصر مكاسب كبيرة، نجحت من خلالها في دحض الميليشيات الإرهابية، التي سعت إلى تهديد الوطن، انتقاما من المصريين في أعقاب خروجهم بالملايين في الشوارع إبان الثورة، حتى يستعيدوا دولتهم من براثن المتطرفين، في الوقت الذى أطلقت فيه الإدارة المصرية حربا فكرية، لعبت دورا كبيرا في تصحيح المفاهيم، عبر تقويض الخطاب المتطرف، الذى كان بمثابة وقودا مهما لأدوات العنف، وهو ما يمثل عنصرا جديدا في مفهوم الحرب على الإرهاب، والذى اقتصر، لعقود طويلة، على الأداة العسكرية، ليس فقط في الرؤية المصرية، وإنما أيضا في عقلية القوى الدولية الكبرى، وهو ما يتجلى في الحرب الأمريكية على الإرهاب، والتي استخدمت أداتها العسكرية لاستهداف معاقل الإرهاب، دون عمل حقيقى من شأنه تغيير الأفكار، أو حتى الأوضاع الاقتصادية، التي يعانى منها المواطنون في الدول التي استهدفوها، حيث اكتفت بوعود الديمقراطية البراقة، دون تحقيق شيء يذكر.
بينما كان الشق الثانى دبلوماسيا، متمثلا في التعامل مع التهديدات القادمة من دول الجوار التي عانت من الفوضى، والتي سعت خلالها بعض القوى الإقليمية المناوئة لمصر تجييش ميليشياتها، لتكون أحد مصادر التهديد، وهو الأمر الذى تصدت، ومازالت، تتصدى له مصر بحزم وحسم، مصقولة باستعادة الدور الإقليمى من جانب، وثقة المجتمع الدولى من جانب أخر، بعدما ثبتت صوابية الرؤية المصرية، في حربها الداخلية على الإرهاب، والتي كانت يوما ما محلا للانتقاد، لتصبح بعد ذلك مصدرا للإلهام.
أما الجانب الاقتصادي، فالقرار يمثل أحد الثمار الهامة، لطفرة كبيرة تشهدها "أرض الكنانة"، تجلت في مشروعات عملاقة، لا تقتصر ثمارها على الداخل، وإنما تمتد إلى الشركاء، سواء في الإقليم أو العالم، حيث تصبح الخطوة بداية حلقة جديدة من مسلسل التنمية، تقوم في الأساس على جذب المزيد من المستثمرين، عبر طمأنتهم للأوضاع في مصر، وهو ما يتزامن مع زيارة رئيس الوزراء مصطفى مدبولى لفرنسا، لتحقيق هذا الهدف، في انعكاس صريح لحالة من الانسجام والتناعم بين الخطوات التي تتخذها الإدارة المصرية، في كافة الملفات.
بينما يبقى الوباء، والذى فرض قواعده، ومازال، على العالم لما يقرب من عامين، عبر سياسات الإغلاق وتوقف العمل في المؤسسات، وما أسفر عن ذلك من تداعيات اقتصادية كارثية، على أعتى القوى الدولية، بعدا ثالثا للنجاح المصري المنقطع النظير، خاصة مع السياسات الحكيمة التي تعاملت مع الأزمة، عبر عدم الإفراط في عملية الإغلاق، مقارنة بالدول الأخرى، تزامنا مع التحرك السريع للحصول على اللقاحات، ثم تصنيعها محليا، مرورا بتكثيف العمل في المشروعات العملاقة خلال فترات التوقف، والتي تحولت إلى ما يشبه "فترة إعداد" لحلقة جديدة من مسلسل التطور السريع الذى تشهده البلاد.
وهنا يصبح قرار إلغاء الطوارئ بمثابة شهادة نجاح ثلاثية الأبعاد، في إطار قصة، مازالت لم تنته بعد، تقوم في الأساس على جناحى التنمية والأمن، بينما تبقى الدبلوماسية واستعادة الدور أحد أهم أدواتها، في المرحلة المقبلة، لتحقيق أحلام المصريين المؤجلة منذ سنوات طويلة.