"الإنسانية في مواجهة السياسة".. عنوان يبدو مهيمنا على الساحة الدولية في المرحلة الراهنة، تزامنا مع معتركات مرتقبة، بين العديد من الدول حول العالم، حول أزمات عدة، وعلى رأسها ظاهرة التغير المناخى، والتي باتت تمثل التهديد الرئيسى، أمام المجتمع الدولى، بعد سنوات من سياسات الإهمال التي مارستها العديد من القوى الدولية، جراء تقاعسها عن الالتزام بتقليص انبعاثاتها الكربونية، ومحاولاتها المضنية لتحميل دول العالم الأقل نموا تبعات شراستهم الاقتصادية، والتي اعتمدت في جزء كبير منها على تجريدهم من مقدراتهم الاقتصادية والتنموية، إلى الحد الذى جعل الحق في التنمية حكرا عليهم، لتصبح الكرة في ملعب القوى الحاكمة في النظام العالمى، للتدخل الصارم، تحت مظلة الأمم المتحدة، لإنقاذ الكوكب من كوارث محققة، ربما تأكل الأخضر واليابس.
ولعل الدور المرتقب من المنظمة الدولية الأكبر في العالم، يتجسد في تحويل الأبعاد السياسية إلى أخرى إنسانية، في إطار مسؤوليتها، التي تمثل جوهر رسالتها، حيث يبقى الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، والذى يعد محور ميثاق الأمم المتحدة، في الأساس هدف إنسانى بحت، وإن كان يستخدم لعقود بطريقة مسيسة، لخدمة قوى دولية تبقى صاحبة النصيب الأكبر من النفوذ الدولى، حيث تبقى العديد من الظروف مهيأة إلى حد كبير لتحقيق ذلك، وعلى رأسها تغير موازين القوى الدولية، وصعود قوى جديدة، على غرار الصين، والتي تسعى لتقديم نفسها باعتبارها قادرة على حماية النظام الدولى من التهديدات الطارئة، إلى جانب مسؤولية الدفاع عن حقوق الدول النامية، في إطار تغيير وجهة الصراع من طبيعته الأيديولوجية، كما كان عليه الحال إبان الحرب الباردة، أو صورته الحضارية، وهو ما تجلى أولا في نظرية صراع الحضارات، التي أرساها السياسى الأمريكي صموئيل هنتنجتون في التسعينات من القرن الماضى، ثم تحولت إلى الواقع العملى، في مرحلة ما يسمى "الحرب على الإرهاب"، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، وهى الصراعات الدولية التى خلقتها أمريكا في مرحلة ما بعد الصعود إلى عرش النظام الدولي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لتكون بمثابة طريقها للحفاظ على قيادتها الدولية، على حساب أي قوى أخرى يمكنها منافستها في المستقبل.
ويمثل الدور الصينى في تغيير وجهة الصراع، عبر الدفاع عن مصالح الدول النامية، خطوة مهمة على طريق مزاحمة واشنطن على القمة، عبر إضفاء جانب إنسانى حقيقى، بعيدا عن التسييس، على السياسة التقليدية، وهو ما يساهم فى حرمان الخصم الأمريكي من توجيه بوصلة الصراع الجديد، على غرار الصراعات السابقة، والتي كانت الولايات المتحدة جاهزة لها تماما، وبالتالي كانت لها الغلبة في النهاية.
وهنا يمكننا القول بأن الصراع الدولى الجديد يحمل في طياته صبغة إنسانية، حيث يبقى الرهان على الأطراف الأكثر قدرة على إضفاء الجانب الإنسانى على السياسة، وهو الأمر الذى ربما تحتاجه بصورة كبيرة الأمم المتحدة، خاصة مع تنامى الأزمات غير التقليدية، كأزمة وباء كورونا، بالإضافة إلى قضية التغيرات المناخية، وهى أزمات تختلف عن الصراعات المسلحة، سواء الدولية أو الأهلية التي ضجت بها أروقتها في نيويورك لعقود طويلة من الزمن، سواء بسبب نطاقها الزمنى أو الجغرافى غير المحدود.
وتعد "عدم محدودية" الأزمات الجديدة، بعدا أخر يضيف المزيد من الزخم للمنظمات الإقليمية، والتي تحتاج هي الأخرى إلى تجاوز أدوارها التقليدية، عبر تعظيم جوانبها الإنسانية، على حساب السياسة، وهو الأمر الذى شهد تحركا ملموسا من جانب بعضها، وعلى رأسها جامعة الدول العربية، والتي باتت تتجاوز السياسة، عبر التركيز على مخاطبة الشعوب، وهو ما تجلى في لقاء الأمين العام أحمد أبو الغيط مع عدد من الفنانين السوريين، في انعكاس صريح للتلامس مع أزمات السوريين، في الوقت الذى مازالت فيه السياسة التقليدية، بتعقيداتها وجوانبها الإجرائية الطويلة أحيانا، تعوق عودة دمشق إلى مقعدها، وإن كانت الأجواء أصبحت أكثر انفتاحا، مما يبشر بعودة قريبة، بينهما ظهر كذلك فى مذكرة تفاهم وقعها "بيت العرب" مع شبكة بنوك الطعام الإقليمية، وهى الخطوة التي تهدف إلى القضاء على الجوع في أكثر المناطق العربية احتياجا.
يبدو أن البعد الإنسانى بات محوريا فيما يتعلق بالدور الذى سوف تلعبه القوى المؤثرة في العالم، سواء على مستوى الدول، أو المنظمات، وهو الأمر الذى يعكس طبيعة المرحلة الجديدة التي يشهدها العالم، كما يتوافق في الوقت نفسه مع الشكل الجديد للتهديدات العالمية، والتي لم تعد تقتصر على حروب تقليدية، أو حتى تكنولوجيا، وإنما باتت حروبا ضد الطبيعة، تتجاوز تداعياتها في دول الصراع الحد الذى يمكن مقاومته أو التعامل معه، وهو ما يتطلب المزيد من العمل الإنسانى الدولى.