ناهد صلاح

بمبلونى تونس

الجمعة، 12 نوفمبر 2021 01:11 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

"صباح الخير يا للى معانا"، صوت أم كلثوم لم أسمعه هذه المرة كما إعتدت فى زيارتى السابقة إلى العاصمة التونسية، كنت أتلقفه يوميًا فى جولاتى الصباحية، وأردد وراء الست:"والطير أهى سارحة فى سماها/ ياللاّ معاها ياللاّ معاها"، بيقين أن هذا هو الطقس الذى يؤثث به التوانسة لنهارهم، هؤلاء الذين يحملون أنفسهم إلى العمل فى شارع محمد الخامس، وهؤلاء العابرين فى شارع الحبيب بورقيبة، يجلسون على مقاهيه أو يتدبرون أمرهم فى محلاته ودكاكينه.

غاب الطقس المألوف فى زيارتى هذه لحضور مهرجان أيام قرطاج السينمائية، لكن لم تغب الموسيقى عن شوارع تونس، ربما كنت متلهفة إلى صوت أم كلثوم فى هذه اللحظة وهذا المكان، لأثبت لنفسى أن الجمال لا يُنسب إلى زمان أو مكان بعينه، مثل أم كلثوم كصوت حر، نافذ فى الوجدان العربي، حتى بعد مرور سنوات وتعاقب أجيال، حضورها أسطورى حتى لو أنكره البعض، مثل هذا الشاب العشرينى الذى اشتريت منه خط موبايل تونسي، وكان يستمع إلى إحدى أغان الراب بصوت عال، ولما سألته: هل يعرف أم كلثوم؟ أجابني: "نعم، لكن أغانيها طويلة برشا، ما ننجمش نفهم معناها".. ثم قام بتشغيل أغنية "إنت عمرى" من أجلى، وراح يتراقص على الموسيقى، وعندما ضحكت مندهشة، قال قوله الحاسم: الموسيقى نظيفة.

بينما خطر لى فكرة ضرورة أن يتعرف الجيل الجديد على تراثه الكلاسيكى، ليس من منطلق الخضوع للقديم، وإنما لأننا لن نستطيع أن نُكمل أو نبتدع جديدًا إن لم نتعرف إلى القديم، إذ توسط مجموعة من الشباب شارع الحبيب بورقيبة، يقدمون بعض أغانى الراب، أصوات تصنع الحيرة فى تحليلها، جميلة لينة، ثم غاضبة متأججة، يحدث لها تغير فى الطبقة، مع الحفاظ على توافق الأنغام، لكن من السهل الإحساس بها وبأن الشكوى والانفعال والسخرية مسألة تجمع البشر، لذا يسمعهم الجميع من دون أن ينظر إليهم أحد باستغراب.

خلال السنوات العشرة الأخيرة، برزت أغنية الراب فى المشهد الموسيقى التونسى، حتى أن فنان كبير مثل لطفى بوشناق شارك فى أغانى الراب، مثلما فعل مع مغنى الراب A.L.A فى تيتر سلسلة " كان يا ماكانش" من إخراج ابنه عبد الحميد بوشناق، كما لو كان اعتراف بالجديد وبالتغيير وحتميته.

 لكن هل الأغانى والموسيقى القديمة والتى عهدناها كجزء أساسى فى طوية المجتمع التونسي، لم تعد طازجة ومطلوبة؟ .. سؤالى يجيب عنه هذا الشاب الذى إلتفت حوله دائرة من الناس فى مدخل السوق العتيقة، شاب يستعيد بصوته إحدى أغنيات محمد عبد المطلب، من دون التخت الشرقى المعتاد، فقط مصحوبًا غنائه بآلة العود فحسب، أحسب حماسه هو نوع من الرغبة فى التحدى يسبق غنائه فى الشارع من أجل المال، يبدأ بـ دندنة خفيفة، ثم يدق على عوده وتنساب نغماته مع الكلمات: "ما بيسألش على أبدًا، ولا بتشوفوا عينى أبدًا، يا ما نديته، واترجيته، إنه يرق شوية، أبدًا، ما بيسألش".. بدا الارتياح على قسمات الجمهور الذى كان يردد وراءه، ويسأله إعادة الغناء، فغنى الشاب بشجن وقوة أكثر. تسلل نغم العود المرافق، بما منح الحزن الكامن فى الكلمات نوعًا من التأمل.

الموسيقى القديمة لا تقتصر على الأغانى المصرية فقط، فهناك مثلًا المالوف والموشحات وغيرها، بما يدل على التنوع وعدم الاقتصار على لون واحد، وهو ما يشدنى فى هذا البلد الذى يهبط الزمن الثقيل عن خيمته العربية ويزرع فى أركانها أوتادًا أخرى لتاريخ موزع بين القرطاجى والإفريقي، الكنعانى الفنيقى والحفصى الجنوبي، فى لوحة فسيفسائية تمثل التاريخ والجغرافيا واللغة الموزعة بين العربية والفرنسية، شىء ما غامض يحيرنى فى تونس العاصمة المطلة على الجانب الشرقى لخليج البحر الأبيض المتوسط والمقسمة إلى المدينة العتيقة التى تقع على ربوة، والمدينة الحديثة التى تمتد حولها، حتى عندما زرت منطقة حلق الوادى، لم تنتابنى حالة الفيلم الشهير "صيف حلق الوادى" (1969) للمخرج فريد بو غدير وحالة التعايش بين أبناء الأديان المختلفة، وإنما حملنى الغموض إلى حالات الترحال والصعود والهبوط  بين الأرض والأمواج.

شىء غامض لا يضاهيه سوى لهفتى لمعرفة تاريخ البشر أكثر من الجدران، فماذا ترى عندما تقف فى منتصف شارع الحبيب بورقيبة فى العاصمة التونسية، وعينك تخطف نظرة صوب تمثال ابن خلدون (العربى الهيئة) وأخرى ناحية المسرح البلدى (الفرنسى المعمار)؟ ماذا ترى عبر ظل كاتدرائية تونس الذى يحاصرك، ويفترش بقليل من الضعف رصيفًا يتسع  للمقاهى، تجاورها صالات السينما التى تمنح من روحها لرصيف يمتد حتى برج الساعة على رأس الشارع؟ ماذا ترى فى خطى العابرين لشارع يحمل اسم الرئيس التونسى الأول بعد الاستقلال عن فرنسا، وتتفرع منه شوارع ونهوج: الجزائر، مرسيليا، القاهرة، اليونان، روما، باريس، قرطاج، جمال عبد الناصر، أم كلثوم؟

ترى تونس تصنع الحياة كما تصنع الكعكة الهلالية، الكرواسان (تقول الحواديت دون أن يدعمها مصدر تاريخي، أنه صنع احتفالًا بانتصار الفرنسيين بمعركة بلاط الشهداء ضد قوات الأمويين عام 732 بحيث يمثل شكل الهلال الإسلامى، أو أنه ابتكر ابتهاجًا لهزيمة العثمانيين من قبل القوات البولندية عام 1683 خلال حصار فيينا للإشارة إلى الهلال بالعلم العثماني، وفى كل الأحوال هو رمز وطنى لفرنسا)، أو كعكة الألف ورقة، الميلفاى (ثلاث طبقات من العجينة المنتفخة، متناوبة مع طبقتين من الكاسترد، أو القشدة المخفوقة أو المربى، والطبقة العلوية مرشوشة بالسكر أو الشيكولاتة)، وهو ميلفاى ليس فقط كـ"ميلفاي" نورى بوزيد؛ العنوان الفرنسى لفيلمه "ما نموتش" الذى قدمه فى العام 2012، ويرسم صورة لتونس بعد الثورة طارحًا قضية الحجاب والازدواجية فى المجتمع التونسي، لكنه الصورة الأكثر قربًا للشخصية التونسية؛ العِرق إفريقى وعربى والطابع مزيج بينهما يضاف إليه الإطار الفرنسي.

لكن الشخصية التونسية كرواسان أم ميلفاى أم بمبلونى؟ البمبلونى هذه العجينة الشعبية، المخمرة المقلية بالزيت ومغطاة بالسكر.. الاسفنج التونسى الذين اشتقوا له اسمًا إيطاليًا وهو بعد أخر فى نسيج المجتمع التونسي؟.. فى كل الأحوال تعددت الصور وتونس واحدة، واقعية بدرجة تُحفز الخيال نحو بلاد تسير على نمش الضوء ما بين أمس فاض بتاريخ ساخن وغد يحمل الكثير من الأسئلة المغلفة بالأمل.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة