كان من المفترض أن أكتب هذا المقال قبل يومين. حاولت البدء فيه فعليًا قبل ساعات. أكتبه الآن بعدما أدركت أنه لن يمكنني التأجيل أكثر. هل أنا كسولة؟ لا، بل كنت أماطل. كنت أبحث عن فكرة رائعة جدًا، ثم عن عنوان مبهر وأخيرًا طريقة غير تقليدية لبدء المقال. هل تمثلك هذه التصرفات؟ إذن مرحبًا بك في نادي الباحثين عن الكمال، واصل القراءة!
إذا كنت تستغرق وقتًا أطول في إنجاز عملك مقارنة بزملائك لأنك تريد أن تحصل على نتيجة مثالية، أو تماطل طويلاً قبل البدء في إتمام مهمة مكلف بها لأنك تخشى ألا تكون رائعة كما تتمنى حين تنفذها، أو حتى كنت طالبًا تعيد مرارًا قراءة ورقة إجابتك حتى آخر لحظة من وقت الامتحان، للتأكد من أنك أتممت الإجابات كلها دون هامش خطأ ولو ضئيل جدًا، وإذا كنت تخاف جدًا من الفشل لدرجة أنك تتراجع عن الإقدام على الكثير من التجارب تجنبًا للفشل، وإذا كنت تعود لبيتك كل ليلة مثقلاً بالإحباط والخيبة لأنك تشعر أنك لم تنجز كل ما تريد بالطريقة الرائعة التي كنت تريدها، فربما حان الوقت لأن تبدأ القراءة والبحث عن الكمالية "perfectionism".
الكمالية أو هوس المثالية أو السعي للكمال في علم النفس هي سمة شخصية (وأحيانًا توصف بأنها اضطراب) يسعى أصحابها إلى الوصول للكمال في كل شيء يفعلونه وبالتالي يعملون وفق معايير عالية جدًا، ولديهم صوت داخلي ناقد شديد القسوة بالإضافة إلى خوف شديد من التعرض للنقد ومواجهة الفشل، لذا يبذلون كل ما في وسعهم لتجنب ذلك.
الكماليون دائمًا ما يتقنون عملهم لدرجة مبالغ فيها، ويضغطون على أنفسهم بشدة ليحققون أهدافهم، التي في الكثير من الأحيان لا تكون واقعية، وهم معرضون ـ بالطبع ـ للشعور بالكآبة والإحباط إذا لم يحققوا تلك الأهداف. لا ترتبط الكمالية فقط بالعمل وإنما تؤثر على كافة مناحي حياتهم، فهم يبحثون عن علاقات مثالية، شكل وجسد مثالي، يرغبون في تربية أبناء مثاليين ويبحثون عن نمط حياة مثالي بشكل عام، وهو ما يشكل ضغطًا رهيبًا عليهم، كثيرًا ما يمتد على المحيطين بهم.
قبل سنوات كنت أشعر بالفخر كوني واحدة من هؤلاء الساعين نحو الكمال، المتقنين لعملهم بشدة والمتفانين فيه، حتى أدركت الحقيقة، وواجهت نفسي بقدر الضغط النفسي الذي أتحمله على عاتقي، وكم مرة عطلتني الكمالية عن الإنجاز. رأيت الدائرة المفرغة التي أقع فيها كل يوم: أماطل في بدء تنفيذ عملي لأنني أريد أن يكون رائعًا، أقضي ساعات طويلة مشغولة بالعمل دون أن أعمل فعلاً، يمزقني خلال هذا الوقت الضائع شعوري بالذنب والإحباط والقلق، وحين تحاصرني عقارب الساعة وأجد نفسي مضطرة لإنجاز عملي، أفعل ذلك في وقت قياسي وتكون النتيجة جيدة، فأتحسر على ما أضعته من ساعات قبل إنجاز العمل!
لم أتخلص من الكمالية على الإطلاق، ولكنني أتذكر كل مرة هذه الدائرة المفرغة. أحاول قدر الإمكان ألا أقع في الفخ. أنجح مرات وأفشل مرات ولكنني على الأقل أعرف أن هناك مشكلة ما بانتظار الحل.
حين قرأت أكثر عن الكمالية، عرفت أن إدراكي أن هناك مشكلة ما هي مرحلة مهمة يسمونها مرحلة "الوعي الذاتي". وهي المرحلة الأولى التي لن يمكنك أن تقطع الطريق من دونها، فمن الضروري أن تنتبه إلى ما يحدث، وتدرك الشعرة الرفيعة بين رغبتك في إتقان العمل والتحضير له وبين المماطلة بسبب سعيك للكمال.
المرحلة التالية مرتبطة أيضًا بما يدور في داخلك، ينبغي أن تتعلم كيف تسمح لنفسك أن ترتكب الأخطاء، وأنها لن تكون نهاية العالم وأن بإمكانك الفشل وإعادة المحاولات مرارًا.
هذه المرحلة تتطلب أيضًا أن تخفض صوتك الناقد قليلاً، لا تسمح للنقد أن يتحول إلى جلد مدمر للذات، ولا تسمح له أن يزعزع ثقتك بنفسك وبقدراتك ومهاراتك.
الخطوة العملية التالية هي أن تحدد أهدافًا معقولة وواقعية من كل مهمة أنت بصدد القيام بها. اجعل أهدافك قابلة للقياس وقابلة للتنفيذ أيضًا لتقلل من شعورك بالتوتر وتتمكن من تحقيقها فتتخلص بالتالي من شعورك المستمر بالإحباط.
من المهم كذلك أن تكون رفيقًا بنفسك، ألا تضغط أكثر من اللازم على نفسك وفي هذه المرحلة تحتاج لتذكير نفسك مرة أخرى أنه لن يمكنك بلوغ الكمال وأنه لا بأس إن أخطأت.
أما الخطوة الأهم على الإطلاق فهي أن تبدأ. لا تستسلم للمماطلة أبدًا. ابدأ الآن حتى لو كنت تظن أنك غير جاهز بعد، وأن الفكرة ليست رائعة وأنك لا تعمل بمزاج وطاقة جيدين. ابدأ وذكر نفسك دائمًا أن هناك فرصة للتطوير والتعديل، وأنه لن يمكنك أبدًا أن تطور شيئًا غير موجود من الأساس.
حين تنجز مهمتك أخيرًا وتجد نفسك على وشك دخول دائرة مفرغة أخرى من التعديل الذي لا ينتهي والتطوير والرغبة في الهدم ثم البدء من جديد، قد يكون مفيدًا أن تستعين بآراء أخرين يُقيّمون عملك بموضوعية بعيدًا عن صوتك الناقد القاسي.
كانت هذه خلاصة تجربتي في محاولة ترويض وحش الكمالية. لم أتخلص منها بالطبع. وربما لا أريد أن أتخلص منها تمامًا، فبدرجة ما، أعرف أن لها مميزات عدة، أعرف أنها تحفزني لأكون شخصًا أفضل وأن أقدم عملاً متقنًا وأهتم بتفاصيله، ولكنني على الأقل أحاول ألا تجعلني أقف مرة أخرى "محلك سر" مع أكوام من "الأفكار الرائعة جدًا" التي لا أنفذها أبدًا خوفًا من الفشل.