أصدر الأديب الكبير محمود الوردانى أحدث كتبه بعنوان "الإمساك بالقمر"، فى 273 صفحة من القطع المتوسط والعنوان يتسم بالبساطة والوضوح ويدور حول الطموح وصعوبة الوصول ونبل المهمة.
يعتقد من يمسك الكتاب للوهلة الأولى أنه خليط من جديلتين: الأولى سيرة ذاتية للمؤلف، والثانية سيرة جمعية لجيل كامل من أدباء السبعينيات الذين عاشوا فترة انكسار نكسة عام 1967، ثم فترة ازورار مصر السادات عن مصر عبد الناصر، والالتفاف 160 درجة على القيم الاشتراكية واستبدالها بالانفتاح والرأسمالية والتبعية السياسية للولايات المتحدة والصلح مع إسرائيل، إلا أن الجديلة الأولى تتوارى لصالح الثانية، وما يستدعيه الرجل من سيرته الذاتية هى فقط تلك المشاهد التى تلقى ظلا على الواقع العام للبلد وأهله ونظام حكمه.
وتأتى أهمية الكتاب من أهمية الفترة التى يؤرخ لها وهى فترة تعرض فيها المصريون لأعنف زلزال فى حياتهم الحديثة (نكسة 1967)، ماتزال آثاره المدمرة مستمرة حتى يومنا هذا، وإن كانت هذه الآثار وقتها أشد عنفا وضروراة عما هى عليه الآن، ليس فقط لحداثة الحدث الجلل، ولكن أيضا لعنف الشعور الوطنى الذى كان مسيطرا على هذا الجيل وعظم الآمال والطموحات التى بشرت بها الناصرية زهاء 17 عشرا عاما قبل الهزيمة المرة، والكاتب لا يتلمس المناخ السياسى للهزيمة ولا يرصد تداعياتها على هذا المستوى بقدر ما يتلمس الجانب الثقافى والإبداعى والفكرى لها، ويرصد تجاربه الشخصية "الكبرى" التى شارك فيها الوطن همه العام، كمشاركته فى الحركة الطلابية سنة 1972، وحرب أكتوبر 1973، وسجنه ثم نفيه إلى الوادى الجديد عام 1978 وغير ذلك.
كما تأتى أهمية الكتاب أيضا من تأريخه لجوانب خاصة غير معروفة فى الحياة الشخصية لأسماء كبيرة لمعت فى عالم الكتابة، فى فصل بعنوان "نجوم من زماننا"، يحكى عنها الكاتب كرفيق شاركهم نزق الشباب، وعاش معهم لحظة بلحظة، فهو يعرفهم عن قرب ويرى فيهم جوانب إنسانية لا ترى بالعين الزائرة، منهم عبد الفتاح الجمل، وغالب هلسا، وإدوارد الخراط، وإبراهيم منصور، وخيرى شلبى، ويحيى الطاهر عبد الله، كما يتناول آخرين فى سياق سرده عن سيرة هذا الجيل المميز، يرسم لهم جميها "بورتريهات" بملامح لن نراها إلا عنده.
الكتاب دون منهج واضح فى السرد ودون تسلسل زمنى تراتبى، أو توال منطقى فى الأماكن، فهو يقدم فصولا من السيرة تقفز هنا وهناك، لكن ذلك لا يعنى أنه مفكك، فكل فصل فيه يتداعى من الفصل السابق عليه، كما أن جميع الوقائع والأحداث ملضومة بخيط رفيع اسمه "الهم العام" الذى ميّز هذا الجيل، فهو جيل لم يعش ـ معظمه ـ لنفسه، وإنما عاش لكمال وطن لم يكتمل مطلقا.
وأخيرا لا يبخل علينا محمود الوردانى فى تزويد هذ النص الثرى بـ"توابل" السرد الممتع، فالأسلوب سهل واللغة متينة، والقصص الطريفة موجودة، كقصة الوليمة التى وعد بها خيرى شلبى الشاعر العراقى عبد الوهاب البياتى وكانت على "البطة" لم يفِ له بها، والألفاظ الخاصة المتداولة بين هذا الجيل فى هذا الوقت، كتسمية حملة الاعتقالات بـ"تجريدة"، وتسمية الكاتب إبراهيم منصور بمسئول "الرصيف الثقافى"، وطرافة بعض الاستعارات الأسلوبية، كوصف الكاتب لكتب كثيرة كان الكاتب خيرى شلبى عائدا بها لبيته بأنها "حمل بعير"، هذا الأسلوب المرح يحقق الربط الوجدانى بينك وبين الكتابة والكاتب.
ومحمود الوردانى هو أحد أبرز أدباء جيل السبعينيات، ولد في الأول من يناير عام 1950 بحي شبرا في القاهرة، وتخرج في معهد الخدمة الاجتماعية عام 1972، وشارك في حرب أكتوبر عام 1973، وشارك في تأسيس صحيفة أخبار الأدب، وترجمت بعض قصصه القصيرة للانجليزية والفرنسية. بدأ رحلته بقصة قصيرة نشرت فى جريدة المساء عام 1968، وكان عمره وقتها سبعة عشر عاما، وتوالى إنتاجه، فأصدر عددا من الروايات والمجموعات القصصية القصيرة، أبرزها: السير في الحديقة ليلًا عام 1984، نوبة رجوع 1990 ، رائحة البرتقال عام 1992، الروض العاطر عام 1993، النجوم العالية عام 1985، في الظل والشمس عام 1995، طعم الحريق عام 1995، أوان القطاف عام 2002، موسيقى المول عام 2007، الحفل الصباحي 2008، بيت النار 2012، البحث عن دينا 2016، باب الخيمة 2018، صمت الرمال 2018.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة