لا شك أن أمن المجتمع واستقراره من أهم مقومات المجتمعات المتقدمة والمتحضرة، كما أنه من أهم وأولى مطالب الشعوب، وفى هذا يقول صلى الله عليه وسلم "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا"، من هذا المنطلق أصدرت وزارة الأوقاف مؤخرًا كتاب "الأمن المجتمعى" من تقديم ومشاركة الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف، وشارك فيه نحو 22 عالما من داخل وخارج مصر، من بينهم: "الدكتور على جمعة محمد عبد الوهاب، عضو هيئة كبار العلماء، ومفتى الجمهورية السابق، والدكتور نصر فريد محمد واصل، عضو هيئة كبار العلماء، ومفتى الجمهورية الأسبق، والدكتور جعفر عبد السلام (رحمه الله) أستاذ القانون الدولى بجامعة الأزهر، والدكتور عكرمة صبرى، خطيب المسجد الأقصى".
ويتضمن الكتاب عدد من البحوث تتناول قضية الأمن المجتمعي تناولًا علميًّا، وهى مجموعة مختارة من بين أهم البحوث التي قُدِّمت لمؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في دورته العشرين، والذى كان تحت عنوان: "الأمن المجتمعي في الإسلام".
وفى تقديمه للكتاب، أكد الدكتور محمد مختار جمعة، أنه لا يمكن أن يتحقق أمن الفرد بمعزل عن أمن المجتمع، فأمن الدول عملية تكاملية تشاركية بين جميع أبنائها، حيث لا يمكن لأى منهم أن يوفر الأمن لنفسه وأسرته بمعزل عن أمن المجتمع، فهناك حماية الحدود، وحماية الدولة من الأعداء، وحماية الأمن الداخلى، وحماية المال والعرض، وحماية المرافق العامة".
وشارك وزير الأوقاف في الكتاب بمبحث تحت عنوان: "حديث القرآن الكريم عن الأمن"، أكد خلاله أن العلاقة بين الأمن والرزق وتوفير المناخ الملائم للاستثمار والعمل والإنتاج علاقة طردية، فمتى تحقق الأمن والأمان والاستقرار تبعه النمو والاستثمار والعمل والإنتاج واتساع أسباب الرزق، ومتى كانت الحروب ، أو التطرف والإرهاب ، والتخريب والتدمير ، والفساد والإفساد ، كان الشتات والفقر ومشقة العيش وصعوبة الحياة.
وفى بحث بعنوان "دور الإيمان في تحقيق الأمن المجتمعى"، أكد الدكتور على جمعة، عضو هيئة كبار العلماء، ومفتي الجمهورية السابق، أكد خلاله أن علاقة الأمن بالإيمان، والسلام بالإسلام، علاقة وثيقة تبدأ منذ اتحاد الجذر اللغوى، وهو ما أشار إليه ربنا سبحانه في قوله تعالى: "ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ"، وصرح به النبي ﷺ حيث قال: " الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ »( ).
ويُعَدُّ الإيمان أعظم طريق لإقرار السلام الاجتماعي ؛ حيث إن الإيمان عقد قلبي ، ومن المسلَّم به حتى في علم الاجتماع أن الممارسات البشرية والعلاقات الاجتماعية المنبثقة عن الاعتقادات أكبر فاعلية وتأثيرًا وأقدر على الدوام والاستمرار مِن تلك التي ليست كذلك.
والأمن والسلام فى الإسلام مبدؤهما من داخل الإنسان لا من خارجه؛ فمتى ما كان الإنسان هادئ البال مستقر المشاعر مطمئن الفؤاد كان آمنًا؛ وإن كانت الأمور تموج من حوله والأحوال تضطرب قريبًا منه، بل الأكثر من ذلك أنه يُفِيض على مَن حوله الأمن والسلام والطمأنينة بقدر ما يَعتَمِل في نفسه من سكون وأمان واطمئنان.
كما أكد مفتى الجمهورية السابق، أن الإسلام يحرص على أن يسود الوئام والوفاق بين أفراد المجتمع، فيحرم الهجر والقطيعة بين الناس، ويجعل خير طرفي النزاع هو الذي يبدأ منهما بالسلام.
وأوضح جمعة، أن المتأمل في السيرة النبوية المطهرة يرى تطبيقَ ذلك واضحًا في تصرفات المصطفي ﷺ مِن مِثلِ امتناعه ﷺ مِن قتال المشركين بمكة، ولَمّا قال له العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري في بيعة العقبة الثانية: «والله الذي بعثك بالحق إنْ شئتَ لَنَمِيلَنَّ على أهل مِنًى غدًا بأسيافنا»، قال له النبي ﷺ: "لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ"، وكذلك تأسيسُه ﷺ لمعنى المواطنة وحرصه على السلام المجتمعي مِن خلال معاهدته مع اليهود بالمدينة، ومؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، وذلك كله تشييدًا للدولة الإسلامية الوليدة على أسس ثابتة من الاستقرار والأمن واستتباب النظام.
فيما أكد الدكتور نصر فريد واصل ، عضو هيئة كبار العلماء ، ومفتي الجمهورية الأسبق، أهمية الزكاة ودورها في تحقيق الأمن المجتمعي، قائلاً:"ما قرره الإسلام في تشريع الزكاة من شأنه أن يجعل للزكاة دورًا في حفظ توازن المجتمع وإعادة توزيع الدخل بين أفراده، وأن يكون ذلك التوازن خطوة رائدة لتقريب الفوارق بين الطبقات وتحقيق الأمن المجتمعي، وفي هذا المعنی يقول الشيخ شلتوت رحمه الله: إن الزكاة في نظر الإسلام ليست إلا صرف بعض أموال الأمة ممثلة في أغنيائها إلى الأمة نفسها ممثلة في فقرائها، وبعبارة أخرى ليست إلا نقل الأمة بعض مالها من إحدى يديها وهي اليد التي استخلفها الله على حفظه وتنميته والتصرف فيه وهي يد الأغنياء، إلى اليد الأخرى وهي اليد العاملة الكادحة التي لا يفي عملها بحاجتها، أو التي عجزت عن العمل، وجعل رزقها فيه ومنه، وهي يد الفقراء".
واختتم مفتى الجمهورية الأسبق قائلاً: "بهذا التشريع المحكم يتحقق التوازن الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء على نحوٍ عادلٍ يحقق الأمن ويقود سفينة المجتمع إلى مرفأ الأمن المجتمعى".
ومن بين المشاركين في الكتاب الدكتور عكرمة صبري ، خطيب المسجد الأقصى، حيث شارك في الكتاب تحت عنوان "مشروعية الوقف ومجالاته في تحقيـق الأمن المجتمعي"، قال فيه: "إن الوقف نوع من أنواع الصدقات والقربات التي يقصد بها التقرب إلى الله تعالى، فالوقف من القرب المشروعة التي حث الشارع الحكيم عليها وندب إليها، والوقف طريق من طرق تنامي البر والخير والإحسان، وإجزال المثوبة للمتصدق إذا قرن عمله بنية خالصة ورغبة صادقة، وقد جاءت السنة العملية وتطبيقات الصحابة - رضوان الله عليهم- لتؤكد شرعية الوقف".
وأوضح خطيب المسجد الأقصى، أن للوقف وظائف مهمة تدعو إلى التكافل الاجتماعي في المجتمع، ويتمثل ذلك في عدة مجالات من بينها :" المجال الديني مثل إقامة المساجد، المجال التعليمي، مثل إقامة المدارس وإنشاء المكتبات، والمجال المائي مثل حفر الآبار وتشييد السبل وإنشاء البرك وقنوات المياه، المجال الصحي مثل إقامة المستشفيات الثابتة والمتنقلة".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة