ربما لم يكن الحديث عن زيارة بابا الفاتيكان لكوريا الشمالية، والتي أعلن عنها عدد من المسئولين في سيول، جديدا على الإطلاق، فقد قامت في الأساس على دعوة من الزعيم كيم جونج أون للبابا فرنسيس، في أعقاب قمته الأولى مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إلا أن الدعوة لم تلق استجابة، في حينه، رغم الدعم الذى قدمته كوريا الجنوبية للخطوة منذ البداية، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا للعديد من المتغيرات التي دفعت إلى مثل هذه الزيارة في المرحلة الراهنة، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن الإعلان عنها جاء بعد أيام قليلة من لقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن، مع رأس الكنيسة الكاثوليكية.
ولعل غياب الدعم الأمريكي للزيارة المرتقبة، في المراحل الأولى من التفاوض، كان سببا رئيسيا في عدم إتمامها في ذلك الوقت، خاصة مع رؤية ترامب القائمة على استمرار الضغط على بيونج يانج، وعدم الانفتاح الكامل عليها، للحصول على أكبر قدر من التنازلات، وعلى رأسها فك الارتباط بينها وبين الصين، للضغط على الأخيرة وحرمانها من مراكز مهمة فى إطار نفوذها الدولى، خاصة وأن بكين تعتمد ما يمكننا تسميتهم بـ"القوى المارقة" كأحد أهم أوراقها في صراع الصدارة على قمة النظام الدولى، وهو الأمر الذى لا يقتصر على كوريا الشمالية، وإنما أيضا هناك قوى أخرى، على غرار إيران وفنزويلا وغيرهما، وبالتالي كان الإدارة السابقة حريصة رغم اللقاءات على الإبقاء على العقوبات، لفرض مزيد من الضغوط على كيم جونج أون، وإجباره على الدوران في الفلك الأمريكي.
إلا أن الأمور ربما تغيرت في الآونة الأخيرة، مع رغبة واشنطن الجامحة في مواصلة سياسة الانسحاب العسكرى، والتي بدأت بأفغانستان، ثم من المقرر أن تقوم بالأمر نفسه في العراق خلال أسابيع معدودة، حيث تخطط إدارة بايدن للخروج، أو على الأقل تقليص وجودها في أراضى حلفائها الآسيويين، على غرار كوريا الجنوبية واليابان، وهو الأمر الذى يتطلب طمأنتهما تجاه التهديد الذى تمثله بيونج يانج، عبر التوصل إلى اتفاق سريع معها في أقرب وقت ممكن، وهو الأمر الذى لا يمكن أن يتم سوى بمباركة الجوار، وهو الأمر الذى يعنى محاولة لتفادى أخطاء الماضى، والتي ارتكبها الرئيس الأسبق باراك أوباما، والذى تجاهل الجوار الإيراني، إبان توقيعه على الاتفاقية النووية.
الولايات المتحدة تبدو ملزمة أكثر من أي وقت مضى إلى تغيير خارطة وجودها العسكرى، والابتعاد عن مناطقها التقليدية، لصالح مناطق جديدة، تبقى أكثر حيوية في الصراع الراهن مع الصين، وعلى رأسها منطقة المحيط الهادئ، والتي باتت أولوية قصوى لدى صانعى القرار في إدارة بايدن، وهو الأمر الذى لا يقتصر على دول آسيا أو منطقة الشرق الأوسط، وإنما يمتد إلى الانقلاب على دول أوروبا الغربية، والتي كانت تمثل "رأس الحربة" في القيادة الأمريكية للعالم.
وهنا يمكننا القول بأن المباركة الباباوية تحمل أكثر من هدف أولها مغازلة الزعيم، والذى يبقى في حاجة إلى الانفتاح، خاصة وأن زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية، إلى الدولة المارقة، تعد بمثابة خطوة على طريق الانفتاح، خاصة من دول أوروبا الغربية، والتي يدين معظمها بالولاء الروحي للفاتيكان، وبالتالي فهناك إمكانية لتوالى الزيارات الغربية إليها، وربما يسمح بمزيد من التعاون، سواء على المستوى السياسى والاقتصادي، وهو ما يصب في محصلته في خانة خروج كوريا الشمالية من عزلتها، التي طالما قبعت فيها لعقود طويلة من الزمن.
زيارة بابا الفاتيكان لكوريا الشمالية، ربما تحمل رسالة "سلام" على غرار زياراته السابقة التي قام بها منذ جلوسه على "السدة" الرسولية"، ولكنها تحمل في طياتها أهداف سياسية أخرى، لا تقل أهمية، على رأسها "قص شريط" التواصل الدولى مع بيونج يانج، وهو ما يمثل خطوة على طريق السلام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة