قبل تلك الجلسة لي مع أديبنا العالمي نجيب محفوظ الذي نحتفل بذكرى ميلاده هذه الأيام (ولد في 11 ديسمبر 1911- توفى في 30 أغسطس 2006) وهي الوحيدة معه بالطبع ولا أزعم أو أدعي أني جالسته من قبل ولكني شاهدته كثيرا في أماكنه الشهيرة... قبل تلك الجلسة كانت القاهرة في هذه الأيام في أكتوبر من عام 1988 تبحث عنه... لا حديث ولا كلام ولا كتابة سوى عنه وعن جائزته العالمية. الصحافة المحلية والعالمية لاحقته في كل مكان يتردد عليه خاصة أماكن وسط البلد في السنوات الأخيرة، من مكتبه في صحيفة " الأهرام" العريقة الى مقهى علي بابا بميدان التحرير وحتى كازينو قصر النيل الشهير والذي احتضن لسنوات كثيرة جلسة الحرافيش لأصدقاءه ثم تحلق حولها تلامذته وغيرهم
خبر فوزه بجائزة نوبل يوم 13 أكتوبر عام 88 أحال حياته الهادئة والتقليدية بعض الشيء الى حالة من الصخب والضجيج...مشواره اليومي الى على بابا وسيره على الأقدام من منزله بالعجوزة وحتى ميدان التحرير ليطالع الجرائد ويحتسى قهوته المفضلة ثم العودة الى المنزل تخلى عنه جبريا، حتى "قعدة الحرافيش" التي كانت تضم ثروت أباظة وصلاح جاهين (لم يستمرا كثير) وأحمد مظهر وتوفيق صالح ومحمد عفيفي والتلامذة يوسف القعيد وجمال الغيطاني، انقطع عنها بسبب مطاردة وملاحقة وسائل الاعلام العالمية والعربية والمحلية له.. ولم يكن يرد طلبا لأحد صغيرا أو كبيرا في اجراء حوار معه بعد فوزه بنوبل.
شهرة نجيب محفوظ بعد نوبل لم تضف لشهرته وقيمته الأدبية كثيرا في مصر والعالم العربي ولكنه بعدها أصبح حديث العالم كله مثله مثل ماركيز وأرثر ميلر وشكسبير وتولستوي وكافكا وهيمنجواي وغيرهم
يتذكر نجيب محفوظ في تلك الأيام ما جرى معه قبل نصف قرن، لم يكن يهتم به أحد من الكتاب أو الأدباء أو النقاد رغم أنه بدأ الكتابة مبكرا في عام 39 ولكن طوال 15 عاما بعدها ظل متجاهلا من النقاد حتى قرب نهاية الخمسينيات. المفارقة أن أول من كتب عنه في مجلة الرسالة الناقد سيد قطب- الذي تحول بعد ذلك لجماعة الاخوان-، وكان ذلك عام 44 بسبب رواية كفاح طيبة وهي احدى روايات الثلاثية التاريخية لنجيب محفوظ (عبث الأقدار- راد وبيس- كفاح طيبة) ثم توالت الكتابات والدراسات النقدية عن رواياته وأعماله.
رأيته بالمصادفة وأنا في طريقي للصعود في مساء تلك الليلة الى مقر مكتب صحيفة " الأنباء" الكويتية بالقاهرة بحي العجوزة على كورنيش النيل...كان جالسا وحيدا في هدوء وأمامه فنجان قهوته على مقهى الفندق المجاور لمكتب الصحيفة ولا يبعد عن منزله سوى خطوات وهو احدى الأماكن التي كان يرتادها بين فترة وآخري...بحركة لاإرادية وبفرحة طفولية توجهت اليه مباشرة واقتحمت عليه جلسته... استأذنته في الجلوس لدقائق ومصافحته وتهنئته فقط، فرحب بابتسامته المعهودة... حزنت لعدم وجود كاميرا تصوير معي لتسجيل تلك اللحظة بالصورة.
دار حوارا سريعا جدا معه عبارة عن دردشة...سألته في البداية لماذا تجلس هنا يا أستاذ بعيدا عن أصدقاءك وتلاميذك... ابتسم قائلا" عاوز ارتاح شوية النهاردة"...باركت له على الجائزة ومعناها لديه. قال " الحمد لله دي جائزة لمصر وأدباءها وبإنجازها في الأدب العالمي" . قلت له " العالم عرفك يا أستاذ من كتاباتك عن العمق المصري والحارة المصرية". رد باهتمام:" مهم أن تكتب عن عالمك الذي تعيش فيه بكل تفاصيله حتى يعرفك العالم. وماركيز فعل ذلك فأصبح عالميا"...قلت له:" لن أطيل عليك يا استاذنا لكن يشغلني سؤال منذ فترة طويلة بعد سيل الدراسات الأدبية والنقدية عن أعمالك وخاصة صورة المرآة في رواياتك. تفسيرات وتحليلات عن مقاربة المرآة في رواياتك وهي كثيرة بصورة مصر ".. أدهشني بضحكته المعروفة رغم علامات الإرهاق التي كانت تبدو عليه.. وقال:" يا بني أنا أكتب فقط وفق تصوري ورؤيتي ولا أقارب شيء بشيء.. أما الناقد فهو حر في تحليله وتفسيره ولا اعترض عليه. فالأدب مثل اللوحة الفنية يراها كل من يشاهدها وفق تذوقه ورؤيته".
ما زلت أتذكر هذا المكان حتى الآن كلما مررت عليه وأنظر بآسي وأتذكر الأماكن التي اعتاد أديبنا العالمي أن يجلس فيها، في مقهى الفيشاوي بالحسين بحي الجمالية وفي مقهى ريش بوسط القاهرة وفي مقهى علي بابا وكازينو قصر النيل وشهرزاد ثم منزل نجيب محفوظ أو شقته بالأحرى، كلها أماكن كان يمكن أن تتحول الى مزارات سياحية وبأسعار خاصة لمن أراد الجلوس اليها مثلما يحدث في بعض مقاهي باريس الي جلس فيها أدباء وشخصيات عالمية فتحولت إلى مزارات.