"أوكرانيا وبيلاروسيا".. كلمتان باتا تتصدران العناوين في الصحف العالمية، في ضوء الصراع الراهن، الذى تشهده القارة العجوز، بينما طرفا الصراع الرئيسى، هما روسيا والاتحاد الأوروبى، وما ورائهما من تحالفات، تعكس تفاعلات، وربما تعقيدات الحقبة الدولية الجديدة، خاصة وأن الأمور تبدلت، بصورة كبيرة، إذا ما قورنت بحقبة الحرب الباردة، والتي اقتصرت على معسكران فقط، وهما المعسكر الغربى، بقيادة الولايات المتحدة، والشرق، بقيادة الاتحاد السوفيتى، حيث أصبحت التحالفات باهتة إلى حد كبير في ظل انقسامات، لا يقتصر نطاقها المعسكرات الدولية، وإنما امتدت إلى داخل كل دولة، في ظل صعود تيارات جديدة، تتسم بخطاب شعبوى، يبدو مختلفا تماما عن الخطاب الليبرالى السائد في العقود الماضية، ناهيك عن التخلي الأمريكي عن حلفاء الماضى القريب.
ولعل السمة الأبرز التي باتت تميز الصراع الجديد، هي حالة التداخل، بين أسلوب الحرب الباردة، والتي سادت العالم قبل الهيمنة الأمريكية المطلقة في التسعينات من القرن الماضى، مع مخاوف إثر احتمال اندلاع نزاعات عسكرية، في ظل حديث متواتر حول "غزو أوكرانيا"، أو هجمات قد تستهدف بيلاروسيا، على خلفية أزمة المهاجرين، إلا أن الأمور ربما لن تخرج عن إطار التصريحات المتبادلة، بحيث لا يتجاوز الصراع طبيعته "الباردة" بين القوى الرئيسية، وإن كان سيتحول إلى أسلوب "الصراع بالوكالة"، عبر استخدام أطراف النزاع (روسيا والاتحاد الأوروبى) للدول الحليفة لها (بيلاروسيا وأوكرانيا) لممارسة أقصى ضغط ممكن على الخصم الرئيسى، عبر وضعه في خانة الإدانة الدولية، وربما تحت وطأة العقوبات الاقتصادية، وبالتالي تحقيق أكبر قدر من المكاسب.
وهنا تحول أسلوب "الحرب بالوكالة"، من مجرد نهج اتسمت به الصراعات في بعض مناطق العالم، عبر توظيف ميليشيات، من شأنها زعزعة استقرار الخصوم في الداخل، كما كان الحال في العقود الأخيرة بالشرق الأوسط، إلى أسلوب للصراع على قمة النظام العالمى، عبر استخدام الدول لتصدير الأزمات لمحيطها الإقليمى، وهو ما يبدو في أزمة المهاجرين، التي تهدف في الأساس إلى تفجير الاتحاد الأوروبى من الداخل، خاصة وأن سياسة "الحدود المفتوحة" تبقى أحد أهم ثوابت "أوروبا الموحدة"، في الوقت الذى تتزايد فيه حدة التمرد في الداخل الأوروبى، على زيادة تدفق المهاجرين إلى أراضيهم بسبب ما يترتب على ذلك من تداعيات، لا تقتصر على النطاق الاقتصادى، وإنما تمتد إلى الجانب الأمني، في ضوء الهجمات التي استهدفت دولا عدة في السنوات الماضية.
فلو نظرنا إلى الصراع الراهن، نجد أن ثمة حرب "تكسير عظام" بين أوروبا الغربية وروسيا، خاصة وأن أزمة المهاجرين بين بيلاروسيا وبولندا، تهدف في الأساس إلى تقويض الاتحاد الأوروبى، بينما تحولت القضية الأوكرانية إلى رهان الأخير لإحياء الناتو، عبر تكثيف تواجده، في كييف، تحت ذريعة "الاحتلال الروسى" المحتمل، وهو ما يمثل خطوة من شأنها تطويق روسيا، وهو ما يعنى أن كلا من بيلاروسيا وأوكرانيا، مجرد أدوات بين أطراف الصراع الرئيسيين.
ولكن يبقى "الانتصار" الأوروبى في تلك المعركة مرهونا بـ"المباركة الأمريكية"، خاصة وأن واشنطن تبقى القائد الفعلى للتحالف، سواء من حيث التمويل أو أعداد القوات، وصولا إلى العتاد العسكرى، وهو الأمر الذى يمثل تجسيدا للأزمة الحقيقية لـ"أوروبا الموحدة"، في ظل اعتمادها المطلق على أمريكا، والتي باتت تحمل أولويات أخرى، على رأسها تطويق الصين، في الوقت الذى لم يعد حصار روسيا أولوية كبيرة لديها، على الأقل مرحليا، وذلك بالرغم من التصريحات الأمريكية التي تبدو متعاطفة مع الحلفاء الأوروبيين، ولكنها لن تخرج في الغالب عن هذا الإطار، وهو ما يتجلى بوضوح في العديد من المشاهد، أبرزها القمة الافتراضية الأخيرة بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الروسى فلاديمير بوتين، وإن غلب عليها "التنظير السياسي"، لكنها تمثل انعكاسا لتطور ملموس في العلاقات، إذا ما وضعنا في الاعتبار أنها جاءت بعد أسابيع قليلة من قمة جنيف، التي جمعت بينهما، وهو ما يمثل ما يمكننا تسميته "طفرة" زمنية، في المحادثات "المعلنة" بين رئيسا أمريكا وروسيا، حيث تبقى لقاءاتهما واتصالاتهما محدودة جدا خلال الإدارات السابقة، وعلى راسها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، الذى لم يلتقى نظيره الروسى، رسميا، سوى مرة وحيدة في العاصمة الفنلندية هلسنكى في 2018.
الحرب الباردة "بالوكالة"، لن تقتصر على المشهد في أوروبا، بين الاتحاد الأوروبى، وروسيا، وإنما تمتد إلى أطراف أخرى، بل ومناطق أخرى في العالم، في ظل إعادة ترتيب مناطق العالم، وهو ما يبدو، على الجانب الأخر، في الصراع بين الولايات المتحدة والصين، حيث تسعى كلا منهما إلى استقطاب الحلفاء، تمهيدا لصراع مرتقب، وهو ما يبدو في الاهتمام الأمريكي الكبير بما يسمى بـ"تحالف المحيط الهادئ"، والذى يمثل أولوية قصوى لدى واشنطن لحصار بكين داخل مناطقها الاستراتيجية، على حساب "الناتو"، والذى يمثل رمزا لـ"المعسكر الغربى" منذ عقود طويلة.