"هل تعود أوروبا إلى حقبة الصراعات العسكرية مجددا؟".. سؤال طرحته العديد من الأحداث الأخيرة على خلفية التوتر بين بيلاروسيا وبولندا، ليتحول التساؤل إلى "كابوس"، مع التصعيد الذى تشهده الساحة الأوكرانية، في ظل ما يثار حول احتمالات "غزو روسى"، في الوقت الذى لم تحولت فيه أدوات المعسكر الغربي إلى "أشباح" من الماضي، سواء الاتحاد الأوروبي، والذى بات يعاني إثر حالة من التفكك أصابته في السنوات الماضية، مع خروج بريطانيا، ثم صعود التيارات الشعبوية، ذات التوجهات المناوئة للتكتل القارى، في العديد من دول أوروبا الغربية، من جانب، أو حلف الناتو، والذى لم يعد يشكل أولوية كبيرة للولايات المتحدة، نظرا لتوجه واشنطن الصريح نحو تطويق الصين، عبر التركيز على تعزيز "تحالف المحيط الهادئ"، على حساب دول الأطلسى.
ولعل الحديث الدائر عن عودة الصراعات الأوروبية ربما ليس بالأمر الجديد تماما، حيث لاح في الأفق، ولكن بصورة تنافسية أقل حدة من مصطلح "الصراع"، في السنوات الأخيرة، ربما أبرزها إحياء الخلاف البريطاني الإسبانى على منطقة جبل طارق، في أعقاب انفصال لندن عن "أوروبا الموحدة"، وهو الخلاف الذى أذابته بوتقة الوحدة تحت مظلة الاتحاد الأوروبي لسنوات، بينما يبقى التنافس الفرنسي الألماني على قيادة الكيان الأوروبي المشترك، وجها أخر لتغير طبيعة العلاقة بين الدول الأعضاء، ناهيك عن الطموح البريطاني في استعادة القيادة القارية من خارج الاتحاد الأوروبي، وهى مشاهد تمثل في مجملها "إرهاصات" التحول من الوحدة الكاملة، تحت إدارة "حكومة قارية"، نحو العودة إلى الاحتماء خلف حدود الدولة الوطنية، ربما تنتهى إلى حالة من الصراع، أو على الأقل المنافسة، وهو ما يساهم في إضعاف الكيان القارى، الذى طالما استلهمته العديد من الأقلام وربما سعت كيانات مشابهة إلى استنساخه دون جدوى.
إلا أن المستجدات الأخيرة، وبالأخص في أوكرانيا، تمثل نقلة مهمة، في تاريخ القارة العجوز، في ظل التحول من مرحلة "الإرهاصات"، إلى التطبيق العملي، عبر التعامل مع ما يراه الغرب باعتباره "تهديدا" صريحا للأمن الجماعي، هو ما يبدو في المواقف التي تتبناها الدول الأوروبية، والتي تشهد انقساما عميقا حول كيفية التعامل مع موسكو، ففي الوقت الذى يرى فيه الاتحاد الأوروبي أن الرضوخ للروس يمثل مسمارا جديدا في نعش أوروبا الموحدة، نجد أن ثمة تحركات فردية، من أجل الوصول إلى حل عبر استرضاء روسيا، من خلال طمأنتها والاستجابة لمطالبها، وعلى رأسها عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، أو الاتحاد الأوروبي، وهى الأدوات التي طالما استخدمها "المعسكر الغربي"، فى تطويق موسكو منذ انهيار الاتحاد السوفيتى، في التسعينات من القرن الماضي، عبر التوسع والتمدد في مناطقها الجغرافية، وهو ما يشكل تهديدا أمنيا صارخا لها.
التحركات الأوروبية الفردية، ربما بدأت عبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس، واللذين حرصا على التواصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للتباحث حول الأزمة، ومستقبل الناتو، خاصة في أوروبا الشرقية، والضمانات الأمنية التي تحتاجها روسيا في المرحلة المقبلة، وهو ما يعنى أن ثوابت، أو بلفظ أدق "تابوهات"، المعسكر الغربى باتت على مائدة التفاوض، بينما أصبحت موسكو صاحبة "اليد العليا"، في إعادة ترتيب النظام الأمني في أوروبا في المرحلة الراهنة، عبر سيطرتها شبه الكاملة على منطقة أوروبا الشرقية، والتي أصبحت تحت إدارة النفوذ الروسي، وهو ما يتضح بجلاء في أزمة بيلاروسيا ومن قبلها الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، وغيرهما.
الأمر ربما لا يقتصر على الناتو، والذى أصبحت فاعليته محل شك، منذ حقبة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذى دشن رسميا فكرة التخلي عن التحالف التاريخي، مما دفع باريس إلى الحديث صراحة عما أسماه ماكرون "الموت الإكلينيكي" للحلف، في 2018، وإنما امتد إلى الاتحاد الأوروبي، والذى يمثل رمزا أخر للمعسكر الغربي، خاصة في أعقاب الحرب الباردة، لنجد دورا يتصاعد "بهدوء"، في الأزمة الراهنة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، والتي تسعى لتقديم نفسها كبديل، أكثر حيادية، في التعامل مع الأزمة، إذا ما قورن دورها بالناتو أو الاتحاد الأوروبي، واللذان يمثلان أطرافا في الأزمة، وهو ما يجد دعما ضمنيا من كلا من روسيا والولايات المتحدة، وهو ما بدا في حضور وزيرا خارجيتهما في الاجتماع الوزاري للمنظمة، الشهر الماضي، لأول مرة منذ سنوات، وذلك لمناقشة الأزمة الأوكرانية.
وهنا يمكننا القول بأن الأزمة الأوكرانية ربما تكون بمثابة بداية النهاية لـ"تابوهات" المعسكر الغربي، في ظل الحديث الروسي عن ضمانات أمنية، والمقصود هنا "بدائل"، لتلك الأدوات التي اعتمدتها أوروبا الغربية لسنوات لفرض سيطرتها على القارة، دون اعتبار لموسكو، والتي تسعى إلى العودة القوية لسابق مكانتها الدولية في المرحلة الراهنة.