تمر اليوم ذكرى بداية رحلة الزعيم أحمد عرابى إلى المنفى فى 28 ديسمبر من سنة 1882، فكيف كانت رحلته، وما الذى جرى فى تلك الرحلة.
يقول كتاب "أحمد عرابى الزعيم المفترى عليه" لـ محمود الخفيف:
أبت الحكومة إلا أن تمضى فى تعسفها وتتمادى فيه قبل سفر الزعماء، إذ تلت عليهم قرار تجريدهم من رتبهم وألقابهم على مرأى ومسمع من الجند والناس …
وأحضرت عربتين إلى باب الدائرة السنية، وأمرت المسجونين فجأة، بعد الساعة الثانية بقليل، أن ينزلوا فى غير إبطاء، ولم يبلغهم أحد عما يراد بهم، ولكن هذا العمل لا يختلف عن معاملة المجرمين العاديين.
ونزل الزعماء وهم يخشون أن يكون فى الأمر غدر جديد فأمروا بالدخول فى العربتين، وسارتا بهم فى حراسة بعض الضباط إلى قصر النيل، حيث اصطف بعض الجند على هيئة مربع، واجتمع فى إحدى الشرفات عدد من عساكر الإنجليز وضباطهم يشاهدون ويصفقون، ووضع الزعماء وسط المربع، وأخذ أحد الضباط يتلو عليهم قرار الخديو، ولما فرغ من تلاوته صاح الجند: "يعيش سمو الخديو"، وسئل الزعماء عن سيوفهم، وشاراتهم أين هي؟ وهو سؤال سمج، لأنهم بملابسهم المدنية وليس معهم شيء، ثم أعيدوا إلى العربتين فسارتا بهم إلى مقرهم فى السجن ونفوسهم مليئة بالسخط على هذه الأفعال الحقيرة …
وكان قد اجتمع عدد من الناس خارج قصر النيل، فنظروا إلى عرابى وصحبه فى حسرة وألم، ولم يستطع إلا واحد أن يهتف: "حماكم الله" ثم اندس فى الجموع، وكان يشهد الحادث خادم مصرى كان قد استأجره المستر برودلى منذ أن جاء إلى مصر ويدعى حسن، وكان شديد الميل لعرابى وقد زاد تأثره وهو يقص على برودلى ما رأى، وعقَّب على غياب السيوف والشارات التى كانت تكسر وتنتزع لو أنها وجدت، بقوله: "الله أكبر! حتى الخديو لم يستطع أن ينال من عرابي".
وذهب برودلى ونابيير إلى السجن، وأخذا يهدآن خواطر الزعماء بالكلمات الطيبة، ويقول برودلي: إنه تنفس الصعداء؛ إذ علم أن السفينة ماريوتس دخلت قناة السويس فعلًا؛ لتكون على أهبة السفر من السويس إلى سيلان فى مساء اليوم التالى …
وبقيت مسألة هامة، فليس مع عرابى ولا أحد من أصحابه مال، وقد بذل برودلى مساعيه حتى صرف لكل منهم ثلاثون جنيهًا مقدمًا مما قرر صرفه لهم بسرنديب …
وقد كتب بيمان بعد ذلك بنحو سنة معقبًا على ذلك فى إحدى الصحف فكان مما قاله: "إن عرابى الذى كان يستطيع أن يجمع لنفسه مليونًا من الجنيهات لم يجد ما يشترى به ملابس له عند سفره، وقد أرسل له بعض أصدقائه حقيبة مليئة بالملابس والقطار على أهبة السفر، وكانت أسرته تعيش وهو فى السجن على صدقات يدفعها بعض محبيه سرًّا وكنت أنا الذى أحملها إليها بيدى، ولست أكتب هذا بدافع عبادة البطولة، وإنما لأبين لماذا اختار الشعب المصرى رجلًا نشأ من طبقة الفلاحين وتمسك به، لأنه يعرف ما يشكو منه، وكيف يدافع عن حقوقه المكتسبة، وآثر ذلك على أن يظل خاضعًا للسلطان الموروث".
ولندع لبرودلى وصف هذا الرحيل، يقول: "كان المفروض أن يبرح القطار الخاص قصر النيل إلى السويس فى الساعة العاشرة على وجه التحديد … وفى الساعة الأخيرة بلغنا أن الرحلة ستؤجل إلى موعد آخر بسبب رداءة الجو فى السويس، ولكنا أخذنا الحيطة فتركنا حسن عند السجن لينظر ماذا يحدث؛ خشية أن نفاجأ مفاجأة آخرى …
وأقبل حسن قبيل الساعة العاشرة منقطع الأنفاس من شدة الجرى فأبلغنا أن الزعماء غادروا لتوهم الدائرة السنية وكان نابيير فى شغل بالبحث عن متاعه؛ لأنه كان يتأهب لمرافقتهم حتى السويس، فركبت عربة وأسرعت إلى قصر النيل …
وكان منظر القصر واضحًا فى نور القمر الساطع الذى كاد يمحو نور المشاعل التى حملها بعض الحراس المصريين وكان أمام عربات القطار بعض شهود الرحيل وكان بينهم السير شارلز ولسن والمستر ماكنزى ولاس وعثمان باشا غالب …
وكان القطار عظيم الطول يكاد يمتد من أول الفناء إلى آخره، وكان فى مقدمته السيدات ومعهن أطفالهن وفى مؤخرته الخدم والمتاع الثقيل وفرقة من الجند الإنجليز تحت إشراف الميجور فريزر، وبعض الجند والضباط المصريين الذين كلفوا أن يرافقوا المنفيين حتى السويس، وخصصت فى وسط القطار عربة من عربات الدرجة الأولى لعرابى وأصحابه، وكانوا قد أخذوا أماكنهم فى القطار عندما بلغ قصر النيل … وبدا عليهم من البشاشة أكثر مما كان يبدو على وجوه فريق مثلهم من الإنجليز لو كانوا فى مثل موقفهم، وأسرعت إلى النوافذ لأسمعهم بعض كلمات التوديع، وأعاد عرابى على كلمات ثنائه وشكره الطيبات …
وكان الأمر بالرحيل على وشك أن يصدر، ولكن بيمان أعلن أن رجال الشرطة عند منزل عرابى منعوا زوجة ابنه وأختها من مغادرته، وما الحيلة؟ لقد حانت ساعة الرحيل، ولم يكن ناظر محطة القاهرة يسمح بأى تأخير للقطار وكان الحى الذى يقع فيه بيت عرابى بعيدًا وعندئذ قال السير شارلز ولسن لعثمان غالب باشا فى لهجة حاسمة: إن القطار لن يبرح مكانه إلا إذا حضرت السيدتان، وأرسل غالب باشا عربته ليجيء بهما، وأعقب ذلك فترة صمت محير … وقد جاء بعض الخدم يحيونني، وبحث المستر نابيير عن مكان له ولحقائب عرابى وتقدم بعض الضباط الإنجليز فصافحوا عرابى وجلس إلى جانبه الميجور فريزر، الأمر الذى ارتاح له عرابى ارتياحًا ظاهرًا ووصلت أخيرًا سيدتان تلبسان ملابس بيضاء وسرعان ما توارتا فى إحدى العربات بين فريق السيدات، ولم يكد يغلق الباب عليهما حتى صدرت إشارة برحيل القطار، وغاب عرابى وأصحابه وراء جدار قصر النيل …
هكذا أخرج عرابى ليلًا إلى حيث لا يرجو له خصومه عودة، لم يره من الشعب المصرى أحد، ولا ودعه من محبيه أحد، وتنفس توفيق وحزبه الصعداء مرة ثانية.
أقلعت بعرابى وأصحابه السفينة مريوتس من السويس فى الساعة الواحدة بعد ظهر يوم 27 ديسمبر، وهى سفينة إنجليزية حمولتها نحو 1400 طن، وقد استأجرتها الحكومة المصرية لنقل هؤلاء المنفيين.